لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه. ( نهج البلاغة ٤: ١١)      إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التسقط فيها عند إمكانها. ( نهج البلاغة ٣: ١٠٩)     من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه. ( نهج البلاغة ٤: ٣)        الجئ نفسك في الأمور كلّها إلى الهك فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز. ( نهج البلاغة ٣: ٣٩)        عوّد نفسك التصبُّر على المكروه ونعم الخلق التصبّر. ( نهج البلاغة ٣: ٣٩)      
الدروس > بحث خارج > أصول > التعارض الصفحة

التعارض البدوي غير المستقر
بسم الله الرحمن الرحيم
وفيه مباحث:
المبحث الأوّل: في قاعدة: (الجمع مهما أمكن أوْلى من الطرح)
قد اشتهر على الألسن قولهم: (الجمع مهما أمكن أوْلى من الطرح). والأساس لهذه القاعدة هو ابن أبي جمهور الأحسائي حسب ما نقله الشيخ الأعظم عنه في فرائده، واستدلّ عليها بأنّ المتعارضَيْن يجب الجمع بينهما مهما أمكن، وإلاّ يلزم طرح كليهما أو طرح أحدهما، والأوّل خلاف الأصل، والآخر يستلزم الترجيح بلا مرجّح.
وإنّ شئت صياغة الدليل في قالب القياس فقل:
المتعارضان دليلان، والدليلان يجب إعمالهما لا طرحهما ولا طرح أحدهما، فينتج: المتعارضان يجب إعمالهما لا طرحهما ولا طرح أحدهما.
يلاحظ عليه: بمنع كلّيّة الكبرى، وهو أنّه يجب إعمال كلا الدليلين، وذلك لخروج الخبرين المختلفين عن تحت القاعدة حسب الروايات المتضافرة، حيث إنّهم ـ عليهم السلام ـ حكموا في الخبرين المختلفين على خلاف الإعمال، بل الأخذ بأحدهما دون الآخر، ولو تمَّت تلك الضابطة بصورتها الكلّيّة يلزم طرح الروايات العلاجيّة المتضافرة التي ستمرّ عليك في المقام الثاني أعني التعارض المستمر.
وعلى ضوء ذلك، فتكون الضابطة مختصّة بغير موارد الخبرين المختلفين اللذين يكون المخاطب متحيّراً في صدورهما من متكلّم واحد، وراجعة إلى ما إذا كان لرفع الاختلاف بين الخبرين شاهد في نفس الخبرين أو الخارج عنهما، ففي ذلك المقام يكون المورد من مصاديق قاعدة الجمع دون الطرح، كما إذا كان دور أحد الخبرين إلى الآخر هو التخصيص والتقييد، أو الحكومة أو الورود، فيكون في نفس الخبرين قرينة عرفيّة في التصرّف في العامّ والمطلق، والمحكوم والمورود، على نحو لا يتحيّر العرف الدقيق في الجمع بينهما وتعيين المراد منهما.
نعم، ربما يتحيّر العرف الساذج بين العامّ والخاصّ أو المطلق والمقيّد ويراهما مختلفين، لكن العرف الدقيق الذي هو المخاطب في تلك المقامات يراهما غير مختلفين؛ لأنّه جرت السيرة على إلقاء العامّ والمطلق وإرادة الخاصّ والمقيّد منهما في بيئة التقنين والتشريع، ولذلك عبّرنا عن هذا القسم من التعارض بالتعارض البدئي أو غير المستقر، فالعرف الساذج يتلقّاهما متعارضين، والعرف الدقيق العارف بشؤون التقنين يتلقّاهما غير مختلفين.
والحاصل أنّ الضابطة الماضيّة تامّة في غير الموارد التي أمر أئمّة أهل البيت بالرجوع إلى المرجحات وطرح أحد الدليلين، ولو قلنا بها حتى في تلك الموارد يلزم طرح تلك الروايات التي نقطع بصدور بعضها عنهم عليهم السلام.
فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ هنا ضابطتين:
١ ـ ضابطة الجمع العرفي بين الدليلين.
٢ ـ ضابطة الترجيح بين الدليلين.
وقد اُشير في الروايات إلى كلّتا الضابطتين، أمّا الأُولى ففي روايات، نذكر منها ما يلي:
١ ـ عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ: ((أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب))(١).
٢ ـ روى الميثمي في حديث طويل عن الرضا ـ عليه السلام ـ: ((وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة، ثمّ كان الخبر الآخر خلافه، فذلك رخصة في ما عافه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكرهه ولم يحرّمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم))(٢).
إلى غير ذلك من الروايات التي تصرّح بأنّ في الأخبار عامّاً وخاصّاً وناسخاً ومنسوخاً.
وأمّا الثاني فسيوافيك بيانه في المقام الثاني.
المبحث الثاني: في شرائط الجمع الدلالي
يشترط في الجمع الدلالي المقدّم على الطرح بالترجيح عدة أُمور:
١ ـ إحراز أصل الصدور، فلو كان هناك علم إجمالي بكذب أحد الخبرين فلا تصل النوبة إلى الجمع؛ لأنّ المراد من الجمع هو الجمع بين الحجّتين، فإذا عُلم كذب أحدهما وعدم صدوره عن الحجّة فلا يكون هناك جمع بين الحجّتين، بل يعدّ جمعاً بين الحجّة واللا حجّة، وهو أمر باطل، ولذلك يجب أن لا يكون هناك علم بعدم الصدور. نعم لا يضرّ احتمال عدمه إذا دلّ الدليل على حجّيته، كما في قول الثقة.
٢ ـ إحراز جهة الصدور وأنّ المتكلّم ألقى خطابه بدافع بيان الحقيقة، لا لدفع الشرّ والضرر. ويكفي في إحرازه كون الأصل عند العقلاء هو هذا، بخلاف ما إذا علم أنّ واحداً منهما صدر تقيّة فلا تصل النوبة إلى الجمع، لما عرفت من أنّ الغايّة هو الجمع بين الحجّتين، وما صدر تقيّة ليس بحجّة بعد العلم بصدوره كذلك.
٣ ـ كون الكلامين لمتكلّم واحد، إمّا حقيقة أو اعتباراً، كما هو الحال في كلمات أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ حيث أنّهم لا يصدرون إلاّ عن مَشْرَع واحد، فكلام الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ نفس كلام الإمام الصادق عليه السلام؛ لأنّ الجميع ينقلون عن آبائهم عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عن جبرائيل عن الله سبحانه.
٤ ـ صحّة التعبّد بكلّ واحد من الدليلين بعد الجمع، وإلاّ فلو اقتضى الجمع لَغْويّة أحد الدليلين ـ كما إذا انجرّ التخصيص إلى الخروج المستوعب ـ لما عدّ محلاًّ للجمع.
٥ ـ وجود قرينة بين الدليلين أو في الخارج عنهما على التصرّف في أحدهما دون الآخر، وإلاّ لا يكون الجمع مقبولاً، بل جمعاً تبرعيّاً لا قيمة له في سوق الاعتبار.
ثمّ إنّ ما قام به الشيخ الطوسي في كتاب (الاستبصار) من الجمع بين ما اختلف من الأخبار بين مقبول وغير مقبول، فالجمع القائم على وجود القرينة ـ في البين ـ على التصرّف في أحدهما المعيّن جمعٌ مقبول، في مقابل التصرّف في أحدهما بلا قرينة، فهو جمع مرفوض. وقد خلط الشيخ الطوسي في كتابه بين الجمعين، كما يظهر ممّا ينقله صاحب (الوسائل) عنه.