أخلص في المسألة لربّك فإن بيده العطاء والحرمان. ( نهج البلاغة ٣: ٣٩)      بكثرة الصمت تكون الهيبة. ( نهج البلاغة ٤: ٥٠)      ثمرة التفريط الندامة. ( نهج البلاغة ٤: ٤٣)      رب كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة. ( نهج البلاغة ٤: ٩١)      من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذاك الأحمق بعينه. ( نهج البلاغة ٤: ٨١ )     
الدروس > بحث خارج > فقه > القصاص الصفحة

قصاص النفس
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين
إنّ علم الفقه هو العلم المرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الفرد واستقرار المجتمع، فهو العلم الذي يهتمّ بتنظيم علاقة الإنسان بربّه من خلال أحكام العبادات وهو الدخيل في حفظ صحة الإنسان وسلامة بدنه من خلال أحكام الأطعمة والأشربة وأحكام الطهارة والنجاسة، وهو العلم الذي يرعى علاقة الإنسان بمجتمعه من خلال أحكام المعاملات، وهو الكفيل أيضاً بتنظيم العلاقة البيتية والأسرية من جهة أحكام النكاح، وبيان حقوق الزوج والزوجة والأولاد، وهو العلم المتكفل بتأمين حياة المجتمع واستقراره من خلال أحكام القضاء والحدود والديات، ومن أهم هذه الأبواب باب القصاص الذي عبَّر عنه الذكر الحكيم بقوله: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} لما له من الدخل الواضح في حياة النوع الإنساني بسدّ أبواب الجريمة ومحو الظلم والاعتداء.
ونظراً لأهمية هذا الباب فقد بحثنا فيه واستوعبنا مسائله وأحكامه لمدة سنين في الحوزة المباركة في قم المشرّفة، وهذه خلاصة تلك المباحث، نسأل اللّه تعالى أن ينفع بها طلاب الحوزات العلمية وفضلائها، وأن يتقبّله منّا بأحسن القبول، إنّه سميع الدعاء قريب مجيب .
 
[١] وهو قسمان:
القسم الأول
في قصاص النفس
والنظر فيه يستدعي فصولاً:
الفصل الأول
متن المسألة:
في الموجب
وهو إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً، ويتحقق العمد بقصد البالغ العاقل إلى القتل، بما يقتل غالباً. ولو قصد القتل بما يقتل نادراً، فاتفق القتل، فالأشبه القصاص، وهل يتحقق مع القصد إلى الفعل الذي يحصل به الموت، وإن لم يكن قاتلاً في الغالب، إذا لم يقصد به القتل، كما لو ضربه بحصاة أو عود خفيف؟ فيه روايتان، أشهرهما أنه ليس بعمد يوجب القود.
[١] القسم الأول من مباحث كتاب القصاص يرجع إلى مباحث قصاص النفس.
والقسم الثاني إلى مباحث قصاص الطرف.
وقد جعل الماتن (قدس سره) للمباحث الراجعة إلى قصاص النفس فصولاً وتعرّض في كل فصل لجانب من جوانبه وتعرّض في الفصل الأول لموجب القصاص.
موضوع القصاص وتحديده:
يعني الموضوع لجواز القصاص الذي يأتي أن جوازه حقّي، فيكون لوليّ القصاص إسقاطه مع العوض أو بلا عوض، وحيث أن حرمة قتل إنسان لا يلازم ثبوت حق القصاص كما في قتل الحرّ عبداً أو المسلم كافراً ذمّياً أو الأب ابنه، ذكروا في تحديد الموضوع للقصاص أنه إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً. والمراد أنّ الموضوع لثبوت حقّ القصاص القتل الخاص وهو أن يقتل شخصاً يكون لدمه حرمة، كحرمة دم قاتله وأن يقع القتل مع التعمّد فيه وبقصد العدوان عليه بأن يكون ظلماً لا قصاصاً أو دفاعاً.
وما يدلّ على اعتبار هذه القيود في ثبوت القصاص يأتي في ضمن مباحث شروط القصاص.
والقيدان الأولان ـ أي المعصومة المكافئة ـ راجعان إلى النفس، والأخيران ـ أي عمداً وعدواناً ـ راجعان إلى الإزهاق.
بيان قتل العمد:
ويخرج بقيد العمد، القتل الصادر عن المجنون والصبي؛ لأنّ عمدهما خطأ على ما يأتي.
ثم إنّ القتل عمداً كما ذكر وإن كان موضوعاً لجواز القصاص في مقابل القتل خطأً محضاً والقتل خطأً شبيه العمد، فإنّ الثاني موضوع للديّة على العاقلة، والثالث موضوع للدية على القاتل إلا أنه يقع الكلام في بعض الموارد في القتل في أنه من القتل عمداً الموضوع للقصاص أم لا؟ فإنه لا خلاف في تحقّقه فيما إذا قصد القتل بفعل يكون قاتلاً عادة، أي غالباً ونظيره ما إذا قصد نفس الفعل الذي يكون قاتلاً غالباً وإن لم يكن الداعي إلى ذلك الفعل قصد القتل، كما إذا ضرب على رأسه بحديدة وإن لم يكن الداعي إلى الضرب المزبور قصد قتله، والوجه في كونه من القتل عمداً انّ قصد ما يكون قاتلاً كذلك من قصد القتل تبعاً.
ويدلّ على كون القتل بما يكون قاتلاً نوعاً يحسب عمداً وإن لم يكن فاعله قاصداً القتل موثّقة أبي العباس وزرارة عن أبي عبداللّه (ع) قال: «إنّ العمد أن يتعمّده فيقتله بما يقتل مثله، والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله، يقتله بما لا يقتل مثله، والخطأ الذي لا شك فيه أن يتعمد شيئاً آخر فيصيبه»(١) .
ومعتبرة السكوني عن أبي عبداللّه (ع) قال: «جميع الحديد هو عمد»(٢) .
وفي صحيحة الفضل بن عبدالملك عن أبي عبداللّه (ع) أنه قال: «إذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد. قال: وسألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفّارة أهو أن يضرب الرجل فلا يتعمّد قتله؟ قال: نعم. قلت: فإذا رمى شيئاً فأصاب رجلاً؟ قال: ذلك الخطأ الذي لا يشك فيه، وعليه كفّارة ودية»(٣) .
والظاهر أنه يدخل في القتل عمداً ما إذا قصد القتل بفعل يغلب عليه عدم ترتّب القتل بأن يكون الداعي إلى ذلك الفعل قصد قتله كما إذا ضربه بالعصا ولم يرفع حتى مات فإنّ الضرب المزبور وإن لا يترتب عليه القتل نوعاً يعني غالباً، إلا أنه حيث كان داعيه إليه قصد قتله يكون القتل الواقع عمدياً وإن ناقش في كونه عمداً بعض الأصحاب على ما قيل.
والوجه في كونه قتلاً عمدياً هو أنّ الفعل العمدي ما صدر عن الفاعل بالقصد والمفروض وقوع الفعل وكون الضارب قاصداً له. ويشهد لذلك صحيحة ا لحلبي، قال: قال أبو عبداللّه (ع) : «العمد كلّ ما اعتمد شيئاً فأصاب بحديدة، أو بحجر أو بعصا أو بوكزة، فهذا كلّه عمد»(٤) .
وفي صحيحة الحلبي وأبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه (ع) قال: «سألناه عن رجل ضرب رجلاً بعصاً فلم يقلع عنه الضرب حتى مات، أيُدْفَعُ إلى وليّ المقتول فيقتله؟ قال: نعم، ولكن لا يُترك يُعْبَثُ فيه ولكن يجيز عليه بالسيف»(٥) .
ولو فرض إطلاق هذه بالإضافة إلى الضرب بالعصا بقصد القتل أو عدمه فيحمل على صورة قصد القتل بما تقدم في صحيحة الفضل بن عبدالملك من قوله: (وسألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفّارة أهو أن يتعمد) .
ومما ذكرنا يظهر أنّه لا يحسب القتل عمداً ما إذا قصد الفعل الذي لا يكون قاتلاً غالباً ولم يكن الداعي له إلى الفعل المزبور قصد قتله ولكن اتفق الموت كما لو ضرب رجلاً بعصا وعود خفيفين على رأسه بمرّات فاتفق موته به من غير أن يكون قاصداً قتله، حيث ذكر (ع) في موثّقة أبي العباس وزرارة «والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله، يقتله بما لا يقتل مثله»(٦) .
وفي موثقة أخرى لأبي العباس البقباق عن أبي عبداللّه (ع) قال: «قلت له: أرمي الرجل بالشيء الذي لا يقتل مثله؟ قال: هذا خطأ، ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها، قلت: أرمي الشّاة فأُصيبُ رجلاً؟ قال: هذا الخطأ الذي لا شكّ فيه والعمد الذي يضرب بالشيء الذي يقتله بمثله»(٧) .
ثم لو فرض الاطلاق في بعض الروايات الدالة على كون القتل عمداً فيما لو قصد الفعل الذي لا يقتل غالباً ولو مع عدم قصد القتل، يرفع اليد عن الاطلاق بالتقييد بقصد الفعل في الموثّقة الأُولى والتصريح بكونه خطأً في الموثّقة الثانية كما أشرنا إلى ذلك في روايات الضرب بالعصا وأنه لم يقلع الضرب حتّى مات المضروب.
وأمّا صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج الوارد فيها «انّ من عندنا ليقيدون بالوكزة وإنما الخطأ أن يريد الشيء فيصيب غيره»(٨) ، فلا تنافي ما ذكرنا؛ لأنّ المفروض في صدرها وقوع الفعل بقصد القتل والقتل بالوكزة مع قصده عمد كما تقدّم.
نتيجة البحث في العمد:
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنه إن قصد القتل بفعله وترتّب عليه القتل فهو تعمد في القتل، بلا فرق بين كون ذلك الفعل مما يترتب عليه القتل نوعاً أم لا، بأن يكون ترتّب القتل عليه نادراً أو أمراً محتملاً يساوي احتمال عدم ترتّبه.
وكذا يحسب القتل تعمدياً فيما إذا أراد الفعل دون القتل ولكن كان الفعل مما يترتب عليه القتل نوعاً.
وأما إذا لم يكن الفعل مما يترتّب عليه القتل نوعاً ولم يكن قاصداً إلى القتل بل المقصود كان نفس الفعل فاتفق الموت يُحْسَبُ القتل شبه العمد وأما إذا لم يقصد الفعل ولا القتل بمن وقع عليه الفعل أصلاً أو قصدهما أو قصد أحدهما بشيء فوقع على غيره فقتل فهذا خطأ محض في الثاني بلا كلام، وفي ا لأول أيضاً، على إشكال يأتي التعرّض له.

(١) الوسائل: ج١٩، الباب١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث١٣ : ٢١.
(٢) الوسائل: ج١٩، الباب١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث١٤ : ٢٧.
(٣) من لا يحضره الفقيه: ج٤، باب القود ومبلغ الدية، الحديث٥١٩٥؛ الوسائل: ج١٩، الباب١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث٩.
(٤) الوسائل: ج١٩، الباب ١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث ٣ : ٢٤.
(٥) الوسائل: ج١٩، الباب ١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث ٢ : ٢٤.
(٦) الوسائل: ج١٩، الباب ١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث١٣ : ٢٧.
(٧) الوسائل: ج١٩، الباب ١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث ١١ : ٢٦.
(٨) الوسائل: ج١٩، الباب ١١ من أبواب القصاص في النفس، الحديث ١ : ٢٤.