لا يستحين أحدٌ إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه. ( نهج البلاغة ٤: ١٨)      الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق. ( نهج البلاغة ٤: ٩١)      اللسان سبع إن خلي عنه عقر. ( نهج البلاغة ٤: ١٥)      قدر الرجل على قدر همته. ( نهج البلاغة ٤: ١٣)      إن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل. ( نهج البلاغة ٣: ٥١)      
البحوث > المتفرقة > حول الوعي التاريخي الصفحة

حول الوعي التاريخي
* الفضل شلق

النخبة وصياغة الوعي
تشكل الأمة العربية واحدة من أكثر الأمم اندماجاً ثقافياً واثـنياً واجتماعياً وهي تملك إمكانيات بشرية ومادية كبيرة. لكنها أمة مصابة بالعجز والهزيمة وهدر الطاقات. يعود ذلك إلى الافتـقار للقيادة على الإمساك بزمام الأمور وتحقيق طموحات ورغبات مجتمعها.
المعني بالقيادة هنا ليس فرداً أو أفراد (وما أكثر الأفراد الأفذاذ في مجتمعنا) بل هي النخبة الملتزمة بقضايا الأمة التزاماً يجعلها قادرة على فهم قضاياها واستيعابها وصياغتها في (برنامج عمل) يعبر عن إجماع الأمة أو عن جملة إجماعات تتراكم في عملية تاريخية متطورة ومتغيرة حسب متطلبات كل مرحلة.
لقد أدت تطورات القرن التاسع عشر من الحملة النابليونية إلى هيمنة الغرب الاقتصادية والثقافية والسياسية والإصلاحات العثمانية إلى ضرب النخب القديمة ومؤسسات المجتمع التقليدية , وبدأت بالظهور في أواخر أيام الدولة العثمانية نخب ثقافية واقتصادية وسياسية جديدة , ونشأت مؤسسات حديثة. لكن هذه النخب والمؤسسات الحديثة فوجئت قبل ان يشتد ساعدها بالحرب العالمية الأولى التي أدت إلى انهيار الدولة العثمانية وتجزئة المنطقة العربية إلى أقطار يخضع كل منها للاحتلال أو للنفوذ الغربي.
كُتب على النخب العربية الحديثة ومؤسساتها أن تنشأ في ظل الهيمنة الغربية , فلم تستطع أن تكتسب الشرعية من جمهور الأمة , وبالتالي بقيت عاجزة عن تحقيق وجود مستقل ومتماسك لها ولمجتمعها. كان وجود هذه النخب والمؤسسات محكوماً بالعزلة عن مجتمعها منذ بداية نشوئها , فبقيت ضعيفة هشة البنيان واختارت طريق التبعية كي تحافظ على بقائها.
وبعد الحرب العالمية الثانية استطاعت الأقطار العربية خلال بضع سنوات تحقيق استقلالها السياسي لا نتيجة النضال الجماهيري , إلا في بعض الحالات , بل بسبب انهيار النظام العالمي القائم آنذاك وقيام توازنات دولية جديدة , بقيت النخب ذاتها تحكم البلدان العربية , لكنها لم تحقق { ٢ {
تطوراً في عملها ولا في وعيها , فلم تستطع أن تزيل وصمة التبعية عن نفسها , لذلك كان سهلاً إزاحتها وحلول الأنظمة العسكرية مكانها.
لم تستطع النخب العربية الحديثة (الليبرالية) التي نشأت في أواخر أيام الدولة العثمانية وفي ظل الهيمنة الغربية أن تبدع وتصوغ وعياً جديداً يتناسب مع طموحات الأمة. كان ذلك بسبب تبعيتها للغرب وعزلتها عن المجتمع , لقد اختارت الطريق السهل كي تحافظ على بقائها وما كانت في يوم من الأيام جدية في عملها ولا في خياراتها الثقافية , بقي منهجها: التبعية السياسية, والطفيلية الاقتصادية المعتمدة على أعمال الوساطة والسمسرة , والتقليد الثقافي للغرب.
يؤكد لنا هذا الأمر ترابط العمل الثقافي بالنشاط الاقتصادي والخيارات السياسية. أن نخبةً ترتكز في وجودها الاقتصادي لا على تطوير القوى المنتجة ولا على العمل الجاد الدؤوب بل على أعمال الوساطة للمصالح الاجنبية والسمسرة الطفيلية وترتكز في وجودها السياسي على الاعتماد على القوى الاجنبية لا على القوى الاجتماعية لجماهير أمتها , إن نخبة من هذا النوع لا يمكن أن ينتج القطاع المثقف منها ثقافة حقيقية ولا وعياً ينسجم مع حاجات المجتمع الحقيقية.
لا مجال هنا لوضع تعريف جامع مانع للوعي , وربما كان ذلك أمراً مستحيلاً , المهم هو الانطلاق من اعتبار الوعي بمثابة مجمل لتراكم تاريخي من الأفكار و (المعارف) التي تترابط فيما بينها لتكوين صورة عن الذات والعالم وموقف من كل منهما , يحتل الوعي التاريخي حيزاً هاماً في مجمل وعي الأمة الذي يشمل (معارف) أخرى دينية وعلمية وفنية وغيرها , بل يمكن اعتباره مجمل سيرورة هذه (المعارف) حيث تنصب في اطار يعيد صياغتها ويحولها إلى ما يشبه (برنامج عمل) ينبعث العمل البشري منه انبعاثاً تلقائياً.
منذ أن بدأت النخب العربية الحديثة بالنشوء في بداية القرن التاسع عشر اعتبرت أن مهمتها تنحصر في اقتباس التكنولوجيا الغربية وتخلت عن مهمة تكوين وعي حديث علماً بأن اقتباس التكنولوجيا من الخارج يبقى تقليداً سطحياً ما لم يصاحبه تطوير ثقافي وروحي يؤدي إلى خلق روح علمية تزرع التكنولوجيا الحديثة في صميم المجتمع وتجعل الخلق والابداع التقنيين ممكنين.
وعندما جاءت الأنظمة العسكرية إلى الحكم في مختلف الأقطار العربية كانت خياراتها تقنية ولم ترتكز على عمل ثقافي جاد , ولا سعت إلى تكوين وعي حديث تنطلق منه في برامجها التحديثية, رفعت شعارات (التقدم) الذي بقي مفهوماً على أنه تقدم تقني ملتصق بوعي مشتت يكرر وعي النخب الليبرالية التي سبقتها.
من الصعب الاعتبار أن لدينا وعياً تاريخياً شمولياً ما دامت هناك اشكاليات كبرى في فهمنا لتاريخنا وما دمنا نتداول هذه الإشكاليات دون بحث جدي فنختلف حولها اختلافات تؤدي إلى