حوزة قم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، وباعث الرسل بما فيه حياةُ أهل الأرضين، وواهب مصابيح الظلم ومشكاة الديجور لعبادِهِ الصالحين، حمداً لا انقطاع له ولا أمد كما هو أهله.

ونصلّي على خير خلقِهِ محمد كما حَمَل وحيه، وبلّغ رسالاته، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه. وعلى الأوصياء من بعده، ومستودع علمه، وباب حكمته، الناطقين بحجّته، والداعين إلى شريعته.

وبعد، فإنّ فضيلة العلم وفضيلة حامليه لا تخفى على أحد، وقد قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) و(إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

وأيضاً لا يخفى شرف علم الفقه وأفضليّته، كما يُرشد إلى ذلك التأكيد عليه كل التأكيد في الآيات والروايات، فقد قال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٌ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).

وأضف إلى ذلك أنّ فيه سعادة الدارين، فإنّ العلوم والتجارب والأبحاث الحديثة أثبتت وما زالت تُثبت أرقاماً ذهبيّة خالدةً في لوحة الإسلام العريقة، فقد رَسَمَ الإسلام قبل ألف وأربعمائة عام المسير الذي أخذت تثبته التجارب والبحوث شيئاً فشيئاً، وما زالت تبلغنا فوائد وحِكَمَ ما جاء به الإسلام من الأحكام من غرب الأرض وشرقها، وما زِلنا نشاهد الوثائق تلوَ الوثائق على صحّة ما نعتقده من تبعيّة أحكام الإسلام للمصالح والمفاسد العائدة إلى البشر. بل كان دأبُ النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والأئمّة المعصومين ـ عليهم السلام ـ هو دعم التشريع ببيان بعض المصالح الدنيويّة التي توصّل البشر إليها اليوم، أو يمكن التوصل إليها يوماً ما، فقد نصّ القرآن على أنّ مضارّ الخمر أكثر من منافعه، وقد باتَ هذا الشيء في أذهان مثقّفي الغرب وحافظي النّظم من الأمور البديهيّة، وكذا فقد صار تجويز الزنا واللواط عند مدّعي الحرّيّة كارثة ووبالاً أورثَ عندهم الداء القاتل، بالإضافة إلى ضياع الأنساب وتفكّك المجتمعات، وغيرها مما لا يحصى.

هذا بالإضافة إلى ما في التزام الجوانب العبادية والامتثال أمام الخالق والانصياع لأوامره وحمده وتسبيحه وذكره من الاطمئنان الذي لا يمكن إدراكه بأيّ وسيلة أخرى، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

ونتيجة لوقوف الشارع والمتشرعة ـ يعني النبيّ والأئمة عليهم السلام ـ على عِظم خطر الفقه، وخطر تفويت مصالح الأحكام الشرعيّة، فقد بذلوا كلّ ما بوسعهم في سبيل نشر الأحكام الشرعيّة وتعليمها والحثّ على تطبيقها، ولم يتردّدوا في التضحية في هذا السبيل، وأوقفوا أعمارهم الشريفة على ذلك.

وكان نتيجة كلّ ذلك الاهتمام والتأكيد أن قام رجال من ذوي العقول الشامخة والآراء الصائبة بتعلّم فنون الفقه وتدوينه واستنباط أحكامه منذ بزوغ شمس الإسلام، وعلى مرّ العصور والأعوام، حاملين أدواته عن السابقين إلى اللاحقين، فأبرموا بذلك عُقدة الدين القويم، ونفوا عنه تحريف الغالين، وعمّروا به أرجاء الأرضين.

ونتيجة ذلك الاهتمام وطروء بعض الظروف ـ كغيبة الإمام ـ أخذ الفقه يتطوّر على مرّ الأعصار، وصارت كيفيّة استنباط الأحكام والفتيا بها تتغيّر بمرور الزمان، وساعد على ذلك الابتعاد عن زمان صدور الأحكام والتعاليم السّامية.

 تطور الفقه

 إنّ مسألة تعلّم الأحكام وجمعها وتدوينها كانت من زمان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، واشتدّت بعد لحوقه بالرفيق الأعلى، وقد تخرّج من مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وعلى أيدي الأئمّة الأطهار ـ عليهم السلام ـ عدّة من الفقهاء العظام، نظير عليّ بن أبي رافع الذي كان من خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام. وسعيد بن المسيّب، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وهما من ثقاة عليّ بن الحسين عليه السلام.

وكذا نظير زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير الأسدي، وجميل بن درّاج، وعبد الله بن مسكان من خِرّيجي مدرسة الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام.

كما أجمع العلماء على فقاهة آخرين من تلاميذ الإمام موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ، نظير يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن أبي عمير، وغيرهم؛ ويعبّر عنهم بأصحاب الإجماع، وحالهم وفقاهتهم معلومة لكلّ من راجع كتب الحديث، وكان لأكثرهم كُتب، إلا أنّ كتبهم كانت مقصورة على نقل الروايات بأسنادها.

وهكذا فقد كانت عمليّة التفقّه بسماع كلام المعصوم، أو تلقّي الجواب منه بعد توجيه السؤال من دون بذل جهد، وكان الإفتاء بنقل نصّ الرواية مع الإسناد، واستمرّ على هذا الحال طول القرون الثلاثة الاُولى.

ولكن قُبيل وبعد غيبة الإمام الثاني عشر ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ يعني أوائل القرن الرابع ـ طرأ تغيير على كيفيّة الفُتيا، وحلّ محلّ تلك الطريقة طريقة جديدة، وهي إلقاء الأحكام إلى الناس بنصّ كلام الإمام من دون ذكر السند والإمام المنقول عنه، أو نقل مضمونه بعد الترجيح والجمع بين الأخبار، وبهذا تركَ الفقه قالب نقل الأخبار، وخرج بقالب الإفتاء.

وأوّل من فَتَحَ هذا الباب على مِصراعيه والد الشيخ الصدوق، فألّف كتاب (الشرائع). وتبعهُ ولده الشيخ الصدوق، فألّف كتاب (المقنع) وكتاب (الهداية) على هذه الطريقة، وتبعهما الشيخ المفيد في كتاب (المقنعة)، والشيخ الطوسي في كتاب (النهاية).

ولّما كانت مُتون هذه الكتب والمؤلّفات هي نصوص الروايات، فلذلك صار البعض يعتمد عليها ويُعاملها معاملة الرواية عند إعواز النصوص.

وفي مقابل هذه الطريقة خرج بعض الفقهاء بطريقة اُخرى، وهي الاعتماد على القواعد الكليّة، الاُصوليّة والفقهيّة، في استنباط الأحكام، والخروج عن الأخبار، وأوّل من فتح هذا الباب القديمان: ابن أبي عقيل العماني، وابن الجُنيد الإسكافي، فألّف الأوّل كتاب (المتمسّك بحبل آل الرسول)، وألّف الثاني كتاب (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة)، وكتاب (الأحمدي للفقه المحمّدي).

وكان ابن أبي عقيل من معاصري الشيخ الكليني المتوفّى عام 328 هـ، وإلا فلم يُضبط عام وفاته في الكتب.

واختار الشيخ الطوسي طريقة ثالثة تعدّ حدّاً وسطاً بين الطريقتين، وهي الإفتاء بمضامين آيات الكتاب والأخبار في اُمّهات المسائل وسمّاها الاُصول، ومن ثم التفرّع على ما تقتضيه القواعد الكليّة وسمّاها الفروع، وقد سلك هذه الطريقة في كتاب المبسوط وكتاب الخلاف، بينما اختار طريقة القميين في كتاب النهاية، وقد ذكر ذلك كلّه الشيخ في مقدّمة المبسوط فراجعها.

وهذه الطريقة هي الطريقة التي سادَت من بعد الشيخ وغلبت، وإن كان لكلّ من الطُرُقُ الاُخرى أتباعها.

 حوزة قم

إن أوّل المعاهد هو مَعهد الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان تلامذة هذا المعهد هم أصحابه، وبالخصوص أهل بيته، فكانوا يتلقّون الأحكام بالمشافهة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيسمعون منه آيات القرآن ويحفظونها، ويتعلمون منه أحكام دينهم، وينقلونها إلى الآخرين.

ويتلوه معهد كلّ واحد من الأئمة المعصومين عليهم السلام بنفس الطريقة، وهكذا استمرّ هذا النحو إلى زمان الغيبة. فأخذت المعاهد العلميّة تتأطّر في اجتماع مجاميع من العلماء والمتعلِّمين في بلد يتدارسون فيه الأحكام الشرعيّة، ويزاولون عمليّة الاستنباط، ويُسمّى بالحوزة العلميّة.

فمن أوائل هذه الحوزات: هي حوزة قم المقدّسة، وتليها حوزة بغداد، وحوزة النجف الأشرف، وحوزة الحلة، وحوزة جبل عامل، وحوزة كربلاء وغيرها من الحوزات العلميّة.

ونخصّ الكلام في حوزة قم المقدّسة، وقبل بيان ما يتعلّق بالحوزة العلميّة نتعرّض جملةً إلى تاريخ مدينة قم وما يختصّ بها.

ذكر أهل المعاجم والتواريخ بلدة قم، وصنّف الحسن بن محمد بن الحسن القمي كتاباً سمّاه (تاريخ قم) تعرّض فيه لتاريخها وما جرى عليها على مرّ العصور.

وذكرها اليعقوبي في كتاب البلدان، وقال: مدينة قم الكبرى، ويقال لها منيجان، وهي جليلة القدر، وإلى جانبها مدينة يُقال لها كمندان، ولها وادٍ يجري فيه الماء بين المدينتين، وأهلها الغالبون عليها من مذحج، ثم من الأشعريين، وبها عجم قُدُم، ومن الموالي يذكرون أنهم موالٍ لعبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وذكر حصونها وأبوابها وأنهارها وقنواتها ....

وذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان، وقال: هي مدينة إسلاميّة مستحدثة لا أثر للأعاجم فيها، وأوّل من مصرّها طلحة بن  الأحوص الأشعري، وهي حسنة طيّبة، وأهلها كلّهم شيعة إماميّة، وكان بدء تمصيرها في أيام الحجّاج بن يوسف سنة 83 هجريّة، وذلك أنّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس كان أمير سجستان من جهة الحجاج، ثم خرج عليه، وكان في عسكره سبعة عشر نفراً من علماء التابعين من العراقيين، فلما انهزمَ ابن الأشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في حملته إخوة يقال لهم عبد الله بن الأحوص، وعبد الرحمن وإسحاق ونعيم وغيرهم، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري، وقعوا إلى قم، وكان هناك سبع قرى، اسم إحداها كمندان، فنزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها، واستولوا عليها، واستوطنوها، واجتمع إليهم بنو عمهم، وصارت السبع قرى سبع محالّ بها.

وكان متقدّم هؤلاء الإخوة عبد الله بن سعد، وكان له ولد قد ربا بالكوفة، فانتقل منها إلى قم، وكان إماميّاً، فهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها، فلا يوجد فيها سنيّ قط.

ومن ظريف ما يُحكى: أنه وَليَ عليهم والٍ وكان سنيّاً متشدّداً، فبلغه عنهم أنهم لبُغضهم الخلفاء لا يوجد فيهم من اسمه أبو بكر ولا عمر، فجمعهم يوماً وقال لرؤسائهم: بلغني أنّكم تبغضون الخلفاء، وأنّكم لِبُغضكم إيّاهم لا تسمّون أولادكم باسمائهم، وأنا أُقسم بالله العظيم لئن لم تجيئوني برجلٍ منكم اسمه أبو بكر أو عمر، ويثبت عندي أنّه اسمه، لأفعلنّ بكم ولأصنعنّ.

فاستمهلوه ثلاثة أيام، وفتّشوا مدينتهم واجتهدوا فلم يروا إلا رجلاً صعلوكاً حافياً عارياً أحول أقبح خلق الله منظراً اسمه أبو بكر، لأنّ أباه كان غريباً استوطنها فسمّاه بذلك، فجاؤوا به.

فشتمهم، وقال: جئتموني بأقبح خلق الله تتنادرون عليّ، وأمر بصفعهم، فقال له بعض ظرفائهم: أيّها الأمير اصنع ماشئت، فإنّ هواء قم لا يجيء منه من اسمه أبو بكر أحسن صورة من هذا، فغلبه الضحك وعفا عنهم. ونقل غير ذلك في وجه نزولهم قم وعلّة المقاتلة.

وعلى أيّ حال فإنّ لبلدة قم تاريخاً عريقاً، ومفاخر كبيرة، وخدمات جليلة في مجال العلم والفقه ، فقد خرج منها علماء عظماء،ومحدّثون كبار، قاموا بحفظ معالم الدين، وأسّسوا مسيرته الفقهيّة وأحكموها.

وقد جاء في فضل قم وأهلها أخبار كثيرة، ففي بعضها: ((إنّ الله احتجّ ببلدة قم على سائر البلاد، وبأهلها على جميع أهل المشرق والمغرب من الجنِّ والإنس، ولم يَدَع الله قم وأهله مستضعفاً، بل وفّقهم وأيّدهم، وإنّ البلايا مدفوعة عن قم وأهلها، وسيأتي زمان تكون قم وأهلها حجّة على الخلائق، وذلك في زمان غيبة قائمنا ـ عليه السلام ـ إلى ظهوره، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها، وأنّ الملائكة لتدفع البلايا عن قم وأهله)).

وفي اُخرى: ((ستخلو كوفة من المؤمنين، ويأرز عنها العلم كما تأرز الحيّة في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدناً للعلم والفضل حتّى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين، حتّى المخدّرات في الحجال، وذلك عند ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجّة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها، ولم يبقَ في الأرض حجّة، فيفيض العلم منها إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فتتمّ حجّة الله على الخلق حتّى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثم يظهر القائم ويسير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد، لأنّ الله لا ينتقم من العباد إلا بعد إنكارِهم حجّة)). وغيرها من الروايات.

والمستفاد من هذه الروايات أنّ قم هي مهد العلم بعد زمان الأئمّة المعصومين، ومع ذلك هي آخر مركز للعلم يحتجّ به الله تعالى على الخلائق، وينتشر منه العلم إلى جميع أنحاء الأرض، وأنّ مركز العلم ينتقل في آخر الزمان من الكوفة إلى قم.

وكلّ ذلك قد تحقّق وشاهدناه بأُمّ أعيُننا، فإنّ أوّل الحوزات بعد الغيبة هي حوزة قم، وشاهدنا انتقال الحوزة في هذه الأزمنة من الكوفة إلى قم.

وهكذا كانت قم وعلى مرور الزمن مهد العلم، ويبرز بين الفترة والاُخرى منها علماء عظام وتأسّست فيها مدارس.

ومن هؤلاء المحدّثين والفقهاء: أبو جرير، وزكريا بن إدريس، وزكريا بن آدم، وعيسى بن عبد الله، وإبراهيم بن هاشم، وابنه عليّ بن إبراهيم المحدّث والمفسرّ الكبير، ومحمد بن الحسن الصفّار، وعليّ بن إبراهيم القمي، والشيخ الصدوق، والقطب الراوندي، والميرزا القمي.

وكان لإبراهيم بن هاشم الدَور الكبير في نقلِ العُلوم إلى قم، فقد قيل: إنه أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقم، وكان شيخ القميين ووجههم، وقيل: إنه لَقِي الرضا عليه السلام.

وكذا ابنه علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير، فإنّه من أجلّ رواة أصحابنا، ونقل المشايخ الثلاثة أكثر رواياتهم عنه، ونقل هو الكثير من رواياته عن أبيه، وكان في عصر الإمام العسكري عليه السلام.

 علي بن بابويه القمي

 شيخ القمّيّين في عصره، وفقيههم ومتقدّمهم وثقتهم، وبيته في قم من أعظم بيوت الشيعة، قد نَبَغَ منه جماعة كثيرة من أساطين العلم، وخرج منه عدّة من روّاد الفضيلة وحملة الحديث والفقه، ومنهم ولده الشيخ الصدوق، وابنه الآخر الحسين. ويكفي في تعريفه ما كتب إليه الإمام العسكري ـ عليه السلام ـ ما نصّه: ((يا شيخي ومعتمدي وفقيهي)).

ولد أبو الحسن عليّ بن بابويه في قم، وكانت ولادته أواسط القرن الثالث، ونشأ بها، وتتلمذَ على العشرات من مشايخها وغيرهم، منهم سعد بن عبد الله الأشعري القمي، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي صاحب التفسير، وأبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري صاحب كتاب (قرب الإسناد)، وهو من الكتب المعتمدة عند الطائفة، وأبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني، والقاسم بن محمد بن إبراهيم النهاوندي وكيل الناحية، والشيخ محمد بن الحسن الصفّار.

وتتلمذ عليه وروى عنه في قم الكثير الذين صاروا من عظماء مؤلّفي الطائفة وعلمائها، منهم جعفر بن محمد بن قولويه القمي صاحب (كامل الزيارات)، وولده الشيخ الصدوق الذي سنتكلّم عنه لاحقاً، وولده الآخر الحسين، وأحمد بن داود القمي، والحسين بن الحسن بن محمد بن موسى بن بابويه، وزيد بن محمد بن جعفر المعروف بابن إلياس الكوفي، وغيرهم.

وأمّا عن رحلاته فقد قَدِمَ العراق حيناً، واجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح، وسأله مسائل، وقدم مرّة اُخرى العراق سنة 328، وأجاز في تلك السنة العباس بن عمر.

وأما عن مصنفاته فقد قال ابن النديم في (الفهرست)، ص 277: (قرأت بخط ابنه محمد بن علي على ظهر جزء؛ قد أجزت لفلان بن فلان كتب أبي عليّ بن الحسين، وهي مائتا كتاب، وكتبي وهي ثمانية كتب) انتهى. فهذا يدلّ على أن للشيخ عليّ بن بابويه مائتي كتاب، ولكن لم يبيّن أكثرها في الفهارس، ولم يُنقل اسماء سوى عشرين منها، ولم يصل إلينا منها شيء سوى ما نقله عنها ولده في (الفقيه) و(المقنع)، وغيره كالعلامة والمحقّق، وأهمّ كتبه على ما يبدو كتاب (الشرائع) الذي تكلّمنا عنه سابقاً.

توفّي ـ رحمه الله ـ في سنة 329 هـ وهي السنة التي تناثرت فيها النجوم بعد رجوعه من العراق إلى بلدته قم، ودفن بها، وقبره معروف فيها، وعليه قبّة عالية سامية، يزوره الصالحون، ويتبرّكون بصاحبه.

 الشيخ الصدوق 

حصن الشريعة، وجامع شتاتها، وحامل آياتها، وحافظ سنّتها، أوّل الأعلام بعد غياب الإمام، والسند المعتمد والبحر القمقام، جامع الحقائق، وغانم الدقائق، الفاتق الراتق، الذي لا يخفى مقامه العلمي، محمد بن علي بن الحسين بن موسى القمي، المعروف بالشيخ الصدوق.

وما ظنّك بمن ولد بدعوة الإمام المنجي، صاحب الزمان المهدي ـ عجل الله فرجه ـ في بيت العلم والفضيلة، وقد قال في حقّ أبيه: ((سيولد له ولد مبارك ينفعه الله عزّ وجلّ به وبعده أولاد)).

ولد في قم، ونشأ بها، وتتلمذ على أساتذتها، وتخرّج على مشايخها، ودرّس فيها، ثم هاجر منها وجال في الأمصار، كنيشابور ومشهد وبغداد ومرو والكوفة ومكة وهمدان وما وراء النهر وبلخ وسرخس وإيلاق وسمرقند وغيرها، فجمع الأحاديث، وسمع من الكثير، وروى وسمع على مشايخ كلّ بلدة، حتّى بلغ أساتذته والراوي عنهم ما يقرب من ثلاثمائة عالم من الخاصّة والعامّة.

والقميّون من أستاتذته منهم أحمد بن عليّ بن إبراهيم القمي، وأحمد بن يحيى العطّار الأشعري القمي، وجعفر بن الحسين بن عليّ بن شهريار القمي شيخ أصحابنا القميين، وأبو القاسم جعفر بن محمد بن موسى بن قولويه القمي، والحسن بن إبراهيم بن هاشم، والحسن بن أبي علي أحمد بن إدريس الأشعري القمي، والحسين بن إبراهيم بن بابويه، وحمزة بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ، ومحمد بن الحسن بن الوليد القمي وهو أبو جعفر شيخ القميين وفقيههم، والشيخ نجم الدين أبو سعيد محمد بن الحسن بن عليّ بن محمد بن أحمد بن عليّ بن الصلت القمي، ومحمد بن ماجيلويه القمي، ومحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، وغيرهم.

وأمّا تلامذته فهم كثير أيضاً، ومن القميين منهم: جعفر بن أحمد بن علي أبو محمد القمي، وأبو الحسن جعفر بن حسكة القمي، والحسن بن الحسين بن عليّ ابن بابويه القمي، وأبو عليّ الحسن بن محمد بن الحسن الشيباني القمي مؤلف (تاريخ قم)، والحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي أخ الشيخ الصدوق، وأبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن الحسن بن شاذان القمي، ابن اُخت أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه مؤلّف كتاب (إيضاح دفائن النواصب)، ومن غير القميين الرجالي المعروف الشيخ النجاشي.

وأما آثاره ومصنّفاته فقد تبلغ إلى ثلاثمائة مصنّف، أورد النجاشي نحو مائتين من كتبه ومصنّفاته، وذكر الشيخ أربعين منها، وهي مصنّفات قيّمة في شتّى العلوم الدينيّة وفنونها، ومنها (من لا يحضره الفقيه) والذي هو أحد الاُصول الأربعة المعتمدة اليوم، ومنها (الخصال)، (التوحيد)، (علل الشرائع)، (معاني الأخبار)، (الشرائع)، وغيرها.

وأما حياته فقد نَذَرَ الشيخ الصدوق نفسَهُ للدين والعلم، ووقف عُمره على جمع الأحاديث والتصنيف في  الحديث والفقه وغيرهما، وأدّت مساعيه إلى حِفظ كثير من الأحاديث من الضياع، فكان له بذلك حقّ عظيم على عاتق الطائفة.

ومن جانب آخر فقد كان له اتّصال بالملك ركن الدولة البويهي الديلمي صار سبباً لبذر البذرات الأولى لانتشار التشيّع في إيران، وذلك على أثر سعاية بعض المخالفين عليه وطعنهم على الشيعة، بعد أن بلغ صيت الشيخ الآفاق، وعُرفت فضائله وسجاياه الحسنة، وصار رئيساً لمذهب الشيعة الإماميّة، ووصل ذلك إلى الملك، فاستدعاه وطلب حضوره عنده، فلمّا حضرَ عظّمه وأجلسه إلى جَنبه وتلطّف به، ولما استوى المجلس قال له: إنّ أهل الفضل اختلفوا في أمر الشيعة وبعض معتقداتهم، وساق الكلام في ما يذكر من القدح على مذهب الإماميّة، فأجاب الشيخ بأجوبة شافية، وأثبت أحقيّة المذهب ببراهين قاطعة وواضحة أثارت إعجاب الملك والحاضرين، واعترف بصحّتها المخالفون، وقد كتب تلميذه الشيخ جعفر بن محمد الدوريستي رسالة في شرح مجلسه بحضرة رُكن الدولة، وأوردها التُستري في مجالس المؤمنين، والخونساري في الروضات، وذكر النجاشي مجالس اُخَر غير ذلك المجلس.

ومع ذلك فقد صار مرجعاً للفُتيا، حيث تواترت عليه المسائل من جميع الأطراف، ويُرشدك إلى ذلك ما ذكره النجاشي من كتبه المؤلّفة في جوابات المسائل، مثل كتاب جواب المسائل الواردة من واسط، وكتاب جواب المسائل الواردة من قزوين، والمسائل الواردة من مصر، والواردة من البصرة، والكوفة، والمدائن، ونيشابور، وغيرها.

وقد كانت ولادته في أوائل القرن الرابع ولم تُضبط، وذكر النجاشي: (إنّ عليّ بن الحسين ـ رحمه الله ـ كتب إلى الصاحب عليه السلام يسأله الولد؟ فكتب إليه: ((قد دعونا لك بذلك، وستُرزق ولدين ذكرين خيّريْنِ))).

وكان ابن سورة يقول: كلّما روى أبو جعفر وأبو عبد الله ابنا عليّ بن الحسين شيئاً يتعجّب الناس من حفظهما ويقولون لهما: هذا الشأن خصوصيّة لكما بدعوة الإمام لكما، وهذا أمر مستفيض في أهل قم.

وأمّا وفاته، فقد توفّي سنة 381 هـ بالري، وقبره بالقرب من قبر عبد العظيم الحسني، وعليه قبّة عالية يزوره الناس ويتبرّكون به، وقد جدّد بناءه السلطان فتح علي شاه في القرن الرابع عشر بعدما ظهرت له كرامة في تلك الأيام ذكرها أصحاب المعاجم، فذكروا أنه ظهر في مرقده الشريف ثلمة وانشقاق من طغيان  المطر، فلما فتّفشوها وتتبّعوها بقصد إصلاح ذلك الموضع بلغوا إلى سردابة فيها مدفنه الشريف، فلما دخلوها وجدوا جثّته الشريفة هناك مسجّاة عارية غير بادية العورة، جسيمة وسيمة على أظفارها أثر الخضاب، وفي أطرافها أشباه الفتائل من أخياط كفنه البالية على وجه التراب، فشاع هذا الخبر في مدينة طهران إلى أن وصل الى سمع السلطان فتح علي شاه، فحضرَ هناك بنفسه، وأرسل جماعة من أعيان البلدة وعلمائهم إلى داخل تلك السردابة بعدما لم يروا اُمناء دولته المصلحة في دخوله بنفسه إلى أن انتهى الأمر عنده من كثرة من دخل وأخبر إلى مرحلة عين اليقين، فأمر بسدّ تلك الثلمة وتجديد عمارة تلك البقعة.