الاجتهاد واجب ديني وحضاري تمليه حقيقة الإسلام

كمال الدين جعيط(1)
   تمهيــد
ان التغيّرات الهائلة، والتطورات الفائقة، التي يشهدها عالمنا اليوم، تفرض على الامة الاسلامية سياقاً كبيراً من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ليس لها فيها من خيار الا تأكيد جدارتها وقدرتها على الفعل والانجاز ومسابقة الامم على المواقع الأمامية. هذا قدرها، ان أرادت اثبات وجودها، وان يكون لها موضع جدير بامكانياتها العظيمة، في عالم تكبر فيه التكتلات والتحالفات، يوماً بعد يوم، ويـسود فيه منطق توسـع المصالح على حساب الحـدود المحلية الضـيقة اقتصادياً وثقافياً. وليس لنا من سبيل الى ادراك غاياتنا في الوحدة والقوة، وتجاوز حالة التشتت الراهنة، الا بتجديد الاوضاع، وتحديث البنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وذلك مشروط باطلاق الفكر الحر القادر على الانتاج والاجتهاد والتوليد، وبالاستثمار الجيّد في قطاعات البحث المعرفي العلمي، وازاحة كل ما يثبّط جهد الابتكار والابداع. انه لا يسعنا أن نتجاهل أننا نعيش على تخوم حضارات وثقافات مختلفة المشارب، مغايرة لنا في المنطلقات، مفارقة لنا في الاهداف والغايات. وان شهودنا الحضاري هو الذي يحدد موقعنا داخل هذه الخارطة العالمية، أفولاً أو بروزاً، قوة أو ضعفاً. وليس بامكان أية حضارة ما، أن تنغلق على نفسها، أو أن تنفي غيرها، والا فقدت شروط تجددها وحيويتها، بفقدان ما يلزمها من اللواقح المخصبة. ويلزم الامة أن تشق في امكانياتها وقدراتها، بتفعيل أدواتها الناجعة لتغيير واقعها الردي، واستعادة عافيتها الحضارية، وذلك باعادة تأصيل الرؤية التأسيسية للاسلام، لقضايا الحرية في علاقتها مع القدر، ولقضايا العقل في محاورته للنص والوحي، بغية تخليص الدين من التأويل الجاهل، والانتحال الباطل، والتحريف المغالي، وبناء الفكر الناقد القادر على التحليل والاستقراء والاستنتاج والتقويم والمراجعة، وتجريد الرؤية الشرعية من حدود الزمان والمكان تحقيقاً لمعنى الخلود فيها. ويلزم مع ذلك، كسب الاستعدادات الضرورية للتعامل مع المتغيرات العالمية، بامتلاك ناصية العلوم والتقنيات، مع القدرة على الابتكار فيها والمنافسة. اننا مطلوبون الى أن لا نبقى في غربة عن الزمان والمكان، وأن لا نركن الى الاجترار، لكي لا نقع في الجمود القاتل. وكان لابد أن يفسح الاسلام في داخله مجالاً للتطور الانساني، بعد أن كمل الدين، باتاحة مساحات شاسعة للاجتهاد، من أجل ملاءمة الاوضاع المتغيّرة، والاستجابة للحاجات المتجددة. ومتى تعطلت هذه الالة، توقف العقل عن دوره في انتاج الحضارة. وكل دعوى الى ايقاف حركة الاجتهاد، انما تصدر من جهل بحقيقة الاسلام، وهي في بعض الحالات دعوى باطنة مغرضة، لا تخلو من دسائس ومؤامرات تريد الوقيعة بالمسلمين.
 مفهوم الاجتهاد ودلالاته الاشتقاق اللغوي:
 وأصله في اللغة; بذل الجهد واستفراغ الوسع، في أمر لا يكون الا بكلفة ومشقة.
المفهوم الاصطلاحي:
ويراد به عند علماء الاصول; بذل الفقيه جهده العقلي في استنباط حكم شرعي عملي من دليله التفصيلي، من الكتاب والسنّة والاجماع والقياس. ويعرّفه العلاّمة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، رحمه الله، تعريفاً دقيقاً بقولة: هو اعطاء حكم لفعل، أو حادث حدث للناس، لا يُعرف حكمه، فيما لاح للمجتهدين من أدلّة الشريعة. ويقول عنه الشاطبي: هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظنّ بالحكم. ونطاق الاجتهاد يتسع الى آماد فسيحة وآفاق رحبة، نوجزها كالتالي:
1ـ الاجتهاد في مدى ثبوت النص الشرعي، ويشمل السنّة دون النص القرآني باعتباره نصاً قطعي الثبوت. أما السنّة التي وردت بطريق ظني، كأحاديث الآحاد، فان المجتهد لابدّ له أن يبحث عن سند الحديث ورجاله، ومدى توافر شروط الصحة فيهم، لقبوله والاخذ به، أو عدم الأخذ به لعدم رجحان صحة الحديث لديه، متناً وسنداً.
2- الاجتهاد في مدى دلالة النص الشرعي على حكمه. ويراد بالنص هنا، النص الذي يدلّ على حكمه دلالة ظنية، غير قطعية ولا صريحة. ومهمة المجتهد في هذا النوع من الاستدلال، البحث عن تفسير النص وتأويله، عن طريق الاعتماد على القواعد اللغوية والقواعد الشرعية التي تساعد على التفسير والتأويل والترجيح. 3- الاجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها نص. وهنا تبدو مهمة المجتهد دقيقة غير يسيرة، اذ هي مشروطة في تحقيق أغراضها ومقاصدها، بمدى كفاءة المجتهد، وتوسع قدرته، وإلمامه بقضايا زمانه، وضرورات عصره. فهو مطلوب بتوليد الحكم الشرعي وانزاله على الوقائع المستجدة، انزالاً يلائم بين مقصد الشارع الحكيم، في جلب المصالح ودرء المفاسد، وبين مقتضيات العصر ومستجداته. وهذا المعنى يعد من الاغراض الاساسية المطلوبة شرعاً، لرفع المشقة والحرج عن المكلّف، وتحقيق الحاجات والمصالح الفردية والاجتماعية، مع مراعاة سياق الضوابط والشروط المعتبرة نصاً وعقلاً. وبذلك نجنّب أنفسنا الوقوع في التعطيل والجمود، سواء باعاقة العقل عن اداء دوره، أو إلجام النص وازاحته عن واقع الاحداث. ويلوح لنا، بعد هذا البيان، أن المراد بالاجتهاد، لا ان نلغي تجارب السابقين، ولا أن نشيح بوجهنا عن جملة الانجازات والتراكمات التي حدثت بتعاقب السنين، والتي استفادت من زخمها حضارة العصر، أو أن نقطع مع الجذور والاصول ونعدم الموروث، لنعيد البداية ونرجع بحركة التأسيس الى نقطة الصفر، فنكون بذلك كمن بتر جزءاً من بدنه، أو عطّل عضواً من أعضاء حركته. وليس القصد من الاجتهاد كذلك، أن نهمل واقعنا، ونضرب صفحاً عن مشاكلنا وقضايانا، فنكون مغيّبين عن سياق عصرنا، ضاربين في متاهات الازمنة البائدة. وفي تقديرنا، أن الاجتهاد يستوعب فهم الواقع في اطار النص المرجع، وفي ضوء القدرات والاستطاعات المتوفرة، وضمن القضايا والاشكاليات التي تطرحها سياقات العصر وتمخّضات الاحداث. لتكتمل بذلك عناصر المعادلة، وهي: النص، والعقل، والحادثة. ولابد لنا أن نلاحظ أن توفّر المعارف والتخصصات، والادوات المساعدة، التقنية والعلمية، التي تمكّن من التعامل مع حركة الحياة والمجتمع، من شأنها أن تساعد على توليد الأفكار وتجديدها، مجردة عن المشاعر الضيقة والأماني القصيرة المدى.
 حكم الاجتهاد وحجيّته من النص والعقل   حكمـه:
 هو فرض عين على القادر، اذا توفّرت فيه أهلية المعرفة بالشرعيات، والعلوم المساعدة والمساندة لها، لاستجلاء الحكم المناسب في القضايا المعروضة عليه. وهو قول الجمهور من الفقهاء والاصوليين.
 حجيّـته:
 لا شك أن هناك نصوصاً من القرآن والسنّة، تؤكّد وجوب الأخذ بالاجتهاد، واستعمال الرأي الحصيف، وحثّ المسلمين على امعان النظر في امورهم، والتدبّر في قضاياهم وشؤونهم، مع حسن الفهم والتطبيق. من ذلك قول الله تبارك وتعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلّهم يحذرون)(2)، وقوله جلّت حكمته: (أفلا يتدبّرون القرآن، أم على قلوب أقفالها).(3) ولو استرسلنا في سرد الشواهد من الآيات القرآنية، لضاق بنا المجال عن حصرها والاتيان على مجملها. وعلى المهتم أن يرجع الى كتب التفسير والاعجاز، ليجد بغيته فيها. والحق الذي لا يشوبه شك، أن القرآن - من خلال ما ورد فيه من معان ورموز، وأمثال وقصص، وحِكم وأحكام - يتضمن دعوة صريحة لاستخدام العقل والفكر، بالتمعّن والتدبّر، والنظر والتبصّر، وفيه من أساليب الحجاج المحكمة، والمحاورة المقنعة، وضرب الأمثلة البيّنة، المؤيّدة والمفحمة، ما يحفز العقل على استقصاء دلالات نصوصه، واستكناه مكنوناتها ومغاليها، واستنباط معانيها وأحكامها. وفي السنّة النبوية المطهّرة، أيضاً، شواهد عديدة على وجوب الاجتهاد. منها قول رسول (ص) لمعاذ بن جبل (رض)، لما بعثه قاضياً على اليمن «بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فان لم تجد؟ قال: فبسنّة رسول الله قال: فان لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله (ص) على صدري وقال: الحمد لله الذي هدى رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله». وقال عليه الصلاة والسلام في المشهور من أقواله «من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد».
  نماذج من أقوال العلماء
ومن الآراء الحكيمة السديدة، الداعية الى الاجتهاد، ما ذهب اليه أبو الفتح الشهرستاني (ت 548 هـ/ 1153م) في كتابه «الملل والنحل» قائلاً «ان الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات، هي مما لا يقبل الحصر والعذر. ونعلم قطعاً، أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضاً. والنصوص اذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، ومالا يتناهى، لا يضبطه ما يتناهى، علمنا قطعاً ان الاجتهاد واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد. ويعضد هذا الرأي، كلام أبي اسحاق الشاطبي (ت 790 هـ / 1388م) في كتابه «الموافقات»، وخلاصته «أنه لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد. عند ذلك لا بدّ للاجتهاد في كل زمان، لان الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان». هذا، وان توافق هؤلاء الفقهاء وغيرهم من الأصوليين، على تحديد المفاهيم وضبط التعريفات، ووضع الشروط والتقييدات، التي لا يكون الاجتهاد الا ضمن حدود دائرتها، قد أدّى، في رأيـنا، الى نشوء وتـشكيل ذهـنية الاسـتحالة والقـصور، في عصور التخلّف والانحطاط، الامر الذي انحسرت معه عملية الاجتهاد فهماً وتطبيقاً، وضاقت بسببها مجـالات التجـديد واسـتنباط التشريعـات المسـتجيبة للحاجـيات المتولّدة والمصالح المرسـلة. على أنه، لابد لنا أن نراعي في زماننا وعصرنا، اتساع مجالات البحث والاجتهاد، وكثافة القضايا المعروضة، وتعقد الاشكاليات المطروحة، بما لا تتسع له قدرة الفرد الواحد، مهما بلغت احاطته، وتنامت امكانياته، ولو أفرغ الجهد وصرف العمر. الامر الذى أدّى الى ظهور الاختصاصات في شتى المجالات، بل الى تدقيقها، حتى آلت الى اختصاصات ضمن الاختصاصات. ولذا، نرى، ضرورة جمع القدرات، وانصهارها في جهد جماعي، ضمن مجامع أو أكاديميات علمية، لتتيسر بذلك العملية الاجتهادية في أبعادها المتكاملة: الزمن، الجهد، النجاعة، والدقة.
الاجتهاد وأهميته في عصرنا الحديث
اننا لا نبالغ، حين نقول، ان عصرنا الحالي، هو عصر الحوادث، بلا منازع. اذ تتغير فيه وتيرة الاحداث، على نحو متكاثف ومتسارع، بغير تقطّع ولا تراخ. انه عصر الثورة المعلوماتية، وعصر الذكاء الاصطناعي، وعصر الثورة الهائلة في ميدان تكنولوجيات الاتصال عبر الاقمار الاصطناعية، ومن خلال الشاشات الالكترونية، وشبكات المعلومات العالمية كالانترنات وغيرها. وهذه الثورة المذهلة، أدّت فيما أدّت اليه، الى ثورة في المفاهيم والتصورات، عن العالم والحضارة والثقافة. وغدا مصير الانسانية، في ضوء تشابك المصالح، مصيراً واحداً مشتركاً. وليس من باب المبالغة في التقدير العلمي، ولا من قبيل الانشاء الادبي التوصيفي، ان نقر بأن العالم، على اتساع حدوده وامتداد رقعته، قد تحوّل، في رمزية وجوده، من حجم الذرة الى صغر نواتها، مع فارق القياس. أو لنقل عنه، كما يروق للعلماء ان يصفوه، هو قرية الكترونية صغيرة. هذه صورة من صور معاينتنا للواقع القائم، بمختلف تجلياته وغزارة أحداثه وتحولاته، لا يمكن ان نقف حياله موقف المكتفي بالمشاهدة عن بُعد، ولا موقف المنبهر وقد أعشت عينيه انعكاسات الضوء المتدفّق. بل نحن مطلوبون الى سرعة الانخراط والتفاعل، ومطالبون بالمشاركة الفاعلة والمساهمة الايجابية، حتى لا تفوتنا قاطرة الاحداث، فنبقى مراوحين مكاننا، يرفضنا الحاضر، ويتخطّانا المستقبل. وليس لنا من طريق الى تحقيق الذات، الا بخوض غمار الاحداث، فعلاً وانفعالاً، أخذاً وعطاء. وكل ذلك مشروط بالاستجابة الواعية لمتطلبات العصر، وتمثّل خاصياته تصوراً وتطبيقاً، مع امتلاك أسرار آلياته المتعددة في تحقيق التنمية والتقدّم. وهل من سبيل الى ذلك، الا باعلاء راية الاجتهاد، وتكريس مبدأ التفكير العلمي الحر، وتشجيع طاقات البحث والمعرفة. فما العطاء الحضاري الا صورة لتجلي عالم الافكار، من خلال الامكانات المتاحة، وامتلاك الخصوبة الكاملة، والقدرة على الابتكار والابداع، مع فتح نوافذ عريضة للتبادل المعرفي، والتسلح بالوعي، والارتقاء الى مستوى المسؤولية الشرعية بكل ما تتطلبه اليوم من الوقوف بحزم في وجه المحاولات المشبوهة لإثارة الصراعات والخلافات واشعال فتيل النزاعات والحروب. ولا زالت المصالح الاستعمارية تغذّي دواعي الشكوك، وتدعم مشاعر فقدان الثقة. ولم يكن ليتهيأ للاستعمار الاجنبي ما تهيّأ له من فرص الانقضاض والتسلل الى أعماق الامة، الا بما وجده من أسباب الوهن والضعف فيها، بسبب تخليها عن واجبها الديني والحضاري في أن تكون وحدة قوية في مدافعة قوى الشر والبغي. بل توسع الخرق وتباعدت المسافات على قربها، وحلّت العداوة محل التآخي، والدسائس محل التآزر والتناصر والتعاون. ولقد حاول الاستعمار جهده تأييد عوامل الفرقة، باحياء نوازع عرقية ولغوية قديمة، من شأنها، اذا تمكّنت من الوجدان العام أن تلغي، في زعم هؤلاء، عوامل الوحدة الجغرافية والتاريخية والثقافية. إنهامحاولة خطيرة لاستبدال جغرافيا الوحـدة بجغرافيـا الشـتات، ولتـحريف تاريـخ الوحـدة وتشويه معالم التجانس الثقافي والحضاري. ولقد سبق زعماء الاصلاح الديني والسياسي منذ بدايات القرن التاسع عشر، الى تنبيه الغافلين الى هذه الحقائق، بالكشف عنها، وتوعية الشعوب الى مخاطرها القريبة والبعيدة. ان الامة تتحمل مسؤولية تاريخية لا يستهان بها في تغيير أوضاعها المتخلّفة، بادخال عوامل الحيوية الثقافية، وتجديد البنى الفكرية، واقتباس ما يلائمها من أشكال النهوض الاقتصادي والاجتماعي، وابتكار أساليب حديثة من شأنها أن تجدد الروح العامة، وتنشىء في الاجيال المتعاقبة أملاً قوياً دافعاً الى الانجاز والتعمير وبناء أسباب القوة. قال الله تعالى (ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).(4) ان انتشار التعليم في كل الاوطان العربية والاسلامية، هو السبيل الذي لا بديل عنه الى مقاومة الجهل والامية، من أجل تحرير العقول وتخليصها من رواسب التخلّف والانحطاط. ومتى أدركنا هذه الغاية الطموحة، بوسائل التخطيط العلمي السديد، واستجماع القدرات المادية والمعنوية اللازمة لتحقيقها وانجاحها، نكون حينئذ قد خـطونا شوطاً متـقدماً نحو امـتلاك الشروط الاساسية لصناعة المعرفة وانتاج الكفاءات المقتدرة. ان الرقي لا ينبت في بيئة جدباء، كما ان العلم لا يحصل في العقول الهزيلة المظلمة. ولن يجدينا الخوض في مقولات الماضي، واجترار المسائل القديمة، بعيداً عن هموم واقعنا ومتطلباته. بل لن تكون للماضي أية قيمة جوهرية حضارية، مالم تستخلص منه عصارة جهد الاقدمين وخلاصة تجاربهم بما يكون طاقة حيوية تدفع الحاضر، ومصدر الهام حقيقي يفتّق المواهب ويذكي قيم الابداع. ولن ينفع التراث الاجيال المتعاقبة، اذا ما سكنت اليه ونامت على مقولاته، واستعاضت بالامجاد القديمة عن صنع أمجادها الجديدة.
وسائل التقريب
 ان جهد الاجتهاد يجب ان ينصبّ في بلورة فهم صحيح سوي، تتشخص فيه سلبيات الماضي وايجابياته، واشكاليات الحاضر وهمومه، بغرض التوفق الى صياغة معاصرة تتوفر فيها ضمانات التقدم والازدهار للاجيال القادمة. ومن أجل ذلك، نرى لزوماً تخطي عقبات الخلاف القديم بمختلف سلبياته العقيمة، بالبحث عن مساحة جديدة تتجمع فيها كل الطاقات والقدرات متضامنة متراصة، مع توظيف مجال الاختلاف في الرؤى والتصورات الى عامل ثراء وتنوّع وابداع. وهل من سبيل الى ذلك الا بتوحـيد الارادات والعزائـم الصـادقة، التي تريد أن تخدم شعوبها وأوطانها باخلاص وتفان. وان الحرص على انشاء المجامع العلمية والاكاديميات المتخصصة، في شتى فروع العلم واختصاصاته، كفيل بأن يمكّن للطاقات الخلاّقة المبدعة مجالاً للتعبير الحر واستثمار عطاءاتها ومواهبها، وتحويلها الى جهد جماعي يختصر الزمن ويحقق الكيف في أعلى درجات جودته وامتيازه. ان مجمعاً كمجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، وغيره من المجامع العلمية، هو اطار مثال لتلاقي العلماء وتبادل الآراء والخبرات، على تنوّعها واختلافها، بتوظيف مجموعها في صياغة اجتهادية جماعية متكاملة، تصدر عن ارادة اعضائها وموافقتهم، في تدارس حر نقدي، لا مراعاة فيه الا للمصلحة العامة للمسلمين. وعلى منوال هذه المؤسسات، يستلزم الامر قيام نظيراتها في مجالات اخرى لا تقل عنها أهمية، ومنها المجامع الاقتصادية التي يمكن ان تتيح توظيفاً اكبر لطاقات الدول والشعوب، في مجالات البحث العلمي، والدراسات الاستراتيجية. وعلى هذه الرؤية الاستشرافية، تتهيأ الظروف المناسبة لقيام تعاون مثمر في كل المجالات، من أجل توظيف الثروات الكبيرة للعرب والمسلمين، في خدمة أغراض التنمية والتكامل الاقتصادي، انه لا مناص من مواجهة هذه التحديات الجسيمة، ومسابقة الزمن، بقيام التكتل العربي والاسلامي المنشود، على غرار ما يقع في العالم من تجمعات كبرى. انه بمستطاعنا، موضوعياً، أن نستجمع قوانا، ونلم شتاتنا، بأن ننتصر لما هو مشترك بيننا، جامع لا مفرّق. اننا نلتقي حول عقيدة واحدة، تمثل الرابطة الجامعة بين كل المذاهب والطرق، وبين كل المسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم. قال تعالى: (ان هذه امتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).(5) وهذه الوحدة تقتضي مسؤولية استحداث الاطر والهياكل الجامعة، بما يتيح اللقاء والتعارف والتقارب. ولعله من مسؤوليات منظمة المؤتمر الاسلامي، استحداث هيكل يهتم بالبرامج والتخطيطات لاشكال من التجمعات العلمية والثقافية والاقتصادية، مع توفير الامكانات اللازمة لتفعيل دوره وتحقيق أهدافه. ان تعدد المذاهب، وكثرتها، واختلاف مناهجها، هي عنوان الحيوية الفكرية والثراء الثقافي. وما أحوج واقعنا اليوم الى مثل هذه الديناميكية للبعث الحضاري! بشرط أن لا نقع في مطبات الماضي وتعقيداته، وأن لا يفضي التعدد الى صراعات، تتناحر فيها المذاهب، فتتحول المذهبية الفكرية على اتساعها، الى مذهبية ضيقة سياسية أو عرقية، لا يجني من ورائها المسلمون الا مزيد التشرذم وتفتت القوى، وهذا هو غرض الاستعمار فينا. واننا نرى أن الخلافات القديمة قد تأسست على خلفيات تاريخية وسياسية ومذهبية، قد وّلاها الزمن وعفت عنها الاحداث والايام، ولم يعد لها اليوم بيننا مبرر وجود، الا في بعض الذهنيات الفكرية العاجزة القاصرة. بل ان المذهبية الجديدة، يجب أن تتشكل، في تصورنا، وفق وعي جماعي جديد، وأن تتوجه بكليتها الى التجميع والتوحيد حيال المخاطر التي تتهدد الكل، من غير تخصيص ولا استثناء. ولن تجدي المصالح الضيقة، ولا الاعتبارات السياسية الحربية، ولا الانتماءات الثقافية المحلية، في أن تحمي بعضنا، أو أن يفلت من قبضتها البعض الآخر.
الوحدة شرط النديّة في التعامل مع الاخر
اننا لا نتوحد من أجل أن نلغي غيرنا، أو أن ندخل في مواجهة حضارية أو مصادمة بين الاديان. بل اننا نطمح الى ان يكون لنا موقع حضور كامل وفاعل ومميّز بين أمم وشعوب العالم، تملأنا الثقة الكاملة في عدالة مبادئنا وشرعية قضايانا، مع الوثوق في قدراتنا الذاتية. وان من الخصائص القوية للاسلام، أنه نص مفتوح على الزمن، متواصل في حواره مع الاجيال المتجددة، في مرونة تكفل الاستمرارية والدوام. وهو أيضاً مفتوح على قضايا الانسان من غير ميز ولا عنصرية. قال تعالى: (وما أرسلناك الا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).(6) ونصّ بهذه المكوّنات الفريدة، لا يمكن ان يكون الا رسالة سلام ومحبة الى الانسانية جمعاء. ولمّا أعلن الاسلام مبدأ الكرامة الانسانية، من غير تفضيل ولا محاباة، ولا تحقير ولا تهميش، الا من فضل العمل الصالح الذي به تكون افادة الانسان، فقد مهّد به السبيل لبناء الاخوة الانسانية، باستنبات مشاعر الالفة والتقارب والتحابب، وازالة كل ما من شأنه ان يحول بين القلوب ويملأها كراهية وكدراً. ان رسالة الاسلام، باعتبارها اختتاماً للرسالات السماوية، تعد امتداداً تاريخياً دينياً لكل الرسالات في صورتها المكتملة، وعلى هذا الاساس المتين، دعا القرآن الكريم جميع الاديان السماوية الى الالتقاء على كلمة التوحيد التي هي اصل مشترك بينها، كمنطلق للحوار وتقريب الشقة والخلاف، وازالة شوائب الصدام والمواجهة. قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئاً).(7) ولا شك أن علماء الاسلام حريصون على اقامة هذا الحوار الحضاري والديني، لتجاوز منغصات الماضي وتخطي العقبات الكأداء. وهو شرط لا غنى عنه، لتدعيم أبنية السلام الروحي والمادي في العالم.
الخاتـمة
 ان حركة التاريخ لا تنفك عن حركة الفكر الانساني. وان تولّد الحضارات من تولّد طاقات الفعل والابداع. وان التجدد والتغير هو ناموس الكون وقانونه الساري، لا يتخلف عنه ولا يتوقف. ولقد نبّه القرآن الى هذه الحقيقة الكبرى، ورددها في غير ما موضع من السور والآيات، ومنها قوله الله تبارك وتعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).(8) وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم).(9) ان الامة الاسلامية، هي اليوم، في طور دقيق من محاولة النهوض، بعد أن صدمها وعيها بواقعها المرير المنهزم. وهي تتلمس الخطى الى الخلاص، باستجماع قواها لاغراض التنمية والتقدم. وابتدأت التجارب الاولى، بعد الاستقلال، باقتباس بعض المناهج والنماذج. ولاقت كثيراً من العنت في تطبيق هذه النظريات الجاهزة، ولم يفلح كثير منها في تحقيق أهدافها. ولعلنا اليوم، قد بلغنا مرحلة من النضج، يتيح طوراً جديداً من الاعتماد على الكفاءات الذاتية القادرة على انتاج التطور، وكسب تحديات التقدم. وان لنا من الامكانيات، والثروات، والاستعدادات، والقدرات البشرية، ما لو انصهرت في جهد جماعي، عبر تخطيط معمّق مدروس، ومن خلال رؤيا صائبة في تحديد الوسائل والاهداف، مع حسن تفعيلها وتطبيقها في الواقع القائم، لتحققت آمالنا التي طالما راودتنا في اعلاء مجد الاوطان واسعاد الشعوب. ولكن نحن اليوم في أمسّ الحاجة الى تجاوز المخلّفات السلبية، بما تعنيه من صراعات مذهبية وسياسية، وفجوات بين المشاعر، وتعارض في تقدير المصالح، وتمسك البعض بجراحات الماضي القريب والبعيد. ان قدر هذه الامة في أن تتوحد، وهل يسعها غير ذلك، في عالم لا حضور فيه الا للتجمعات والتكتلات القوية. بل ان تاريخها الواحد المشترك، ومميزاتها الثقافية المتجانسة، هي عوامل قوة حقيقية مساندة، تمتاز بها عن غيرها من التكتلات.
________________________________
(1) مفتي الديار التونسية.
(2)سورة التوبة، الآية 122.
(3)سورة محمد، الآية 24.
(4)سورة الرعد، الآية 11.
(5)سورة الأنبياء، الآية 92.
(6)سورة سبأ، الآية 28.
(7)سورة آل عمران، الآية 64.
(8)سورة الأنعام، الآية 122.
(9)سورة الأنفال، الآية 24.