أضواء على معالم الدراسة والبحث في الحوزات

أضواء على معالم الدراسة والبحث في الحوزات العلمية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام

السيد هاشم الهاشمي

 

أحاول في هذا المقال إلقاء بعض الضوء على معالم الدراسة والبحث في الحوزات العلمية لمدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، وأقصد منها مراكز الدراسة الفقهية والأصولية للمذهب الإمامي، وبخاصة حوزة النجف الاشرف.

ومن الجدير ذكره أن بعض الباحثين اعترفوا بما تملكه هذه المدرسة من ثراء وعمق علميين في الفقه والأصول، بما يفوق ما  تملكه مدارس سائر المذاهب، بل إن لها آراءها وبحوثها العميقة  والمتطورة في بعض المجالات الأخرى، كالكلام والفلسفة  والتفسير والنحو واللغة والأدب وغيرها، ولا سيما المرتبطة منها بالبحث الفقهي أو الأصولي، وقد أشار الأستاذ الكبير  السيد محمد تقي الحكيم في تقديمه لكتاب عقد الفضولي  (رسالة ماجستير للشهيد السيد عبد الهادي نجل السيد  الحكيم) إلى اعتراف بعض الباحثين بما تملكه الدراسة  الحوزوية من ثراء علمي وعمق، فقد نقل عن أحد أساتذة الجامعة الذين ناقشوا هذه الرسالة، وهو يتحدث عن عمق محتوياتها: (أنا أعزو هذه الرسالة وهذا العمق في هذه الرسالة بالدرجة الأولى إلى دراسات المؤلف الخاصة في معاهد النجف. وقال بعد ذلك: إن السطحية (وهي عدوى العصر كما عبر عنها) دخلت في أكثر الجامعات والمعاهد التي تعنى بأمثال هذه العلوم واستثنى من ذلك النجف ونظائرها من مراكز الثقافة الاسلامية العريقة. ثم تشعب الحديث عن الكنوز الثرية التي انطوى عليها قسم من الموسوعات التي صدرت عن النجف، أمثال كتاب الجواهر للشيخ محمد حسن النجفي، والمكاسب للشيخ الأنصاري، والمستمسك للسيد الحكيم، واعتبرها مما يقل أو ينعدم نظيرها في عالمها الخاص عمقاً وسعة وشمولاً، ثم ختم حديثه بخطاب وجهه إليّ، وأنا أوجهه بدوري إلى مؤلف هذه الرسالة ونظائره من طلاب الحوزة: إن رسالة النجف أمانة في أعناقكم، فلا تفرطوا فيما تملكه من عمق في دراساتها الجادة، وبخاصة ما يتعلق بعلوم الشريعة وما يلابسها من علوم اللغة العربية ، فهي ليست ملكاً لكم فحسب، وإنما هي ملك العالم الاسلامي وللفكر أينما وجد)(1).

لعل أهم العوامل في هذا التفوق العلمي، هو ما تملكه مبادئ أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من أصالة وثراء فكري، وما بذله علماؤنا من جهد علمي خلال العصور، وما يتمتعون به من ورع وتقوى، وان أمكن أخذ بعض الملاحظات على بعضهم من حيث الأسلوب والمنهج.

وفي هذا المقال نبحث عن بعض مميزات الدراسات الحوزوية، وبعض الملاحظات التي أخذت عليها، وقد ذكرنا أن أكثر هذه الملاحظات ناظرة للأسلوب والمنهج لا الفكرة، مع مناقشة بعض هذه
الملاحظات، وكذلك نبحث فيه عن بعض معالم السيد الحكيم العلمية، وأخص بالبحث كتابه مستمسك العروة الوثقى ; لأهميته ودوره الكبير في الحوزات.

مميّزات الدراسات الحوزويّة

نستعرض هنا بعض مميزات هذه المدرسة العلمية:

1 ـ الفهم العميق:

إن هذه المدرسة تمتاز بالعمق والدقة في التفكير والبحث، وفي فهم أقوال العلماء، وتتجنب السطحية، بل لا تكتفي بمجرد توضيح عبارة الكتاب حتى في دراسة المقدمات والسطوح فضلاً عن البحث الخارج(2)، وإنما تبحث عن سر الفكرة وأسسها العلمية، والقواعد المرتبطة بها، لتؤدي للاقتناع الموضوعي والعلمي للطالب، وهذه هي طريقتهم في بيان أقوال العلماء في البحث الخارج. وربما فسروا أقوال العلماء من القدماء وغيرهم تفسيراً جديداً، تندفع معه بعض الإشكالات عليها، ويكتسب معها القول عمقاً علمياً، سواء وافقوه بعد ذلك أو ناقشوه. وقد ذكرت شواهد على هذه التفسيرات في دراستي عن الشيخ الانصاري(3).

وكذلك لا يكتفون بعرض بعض الأقوال أو الأدلة أو المسائل وبخاصة الميسرة، بل يحاولون التوسع في البحث ما أمكن. ودراسة البحوث العميقة والدقيقة كذلك، وزرع روح العمق والدقة في الطالب، وصفة العمق تتجلى في جميع بحوثهم وكتاباتهم الفقهية والأصولية. وتظهر كذلك في مجال تفسيرهم للآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة، المرتبطة ببعض البحوث الأصولية أو الفقهية، ولو حاولوا كذلك تفسير سائر الآيات والروايات بمثل هذا العمق، لكان عملاً كبيراً في عالم التفسير والحديث.

2 ـ روح المناقشة والنقد:

بالإضافة لما ذكرناه من أن هذه المدرسة تشجع على الفهم العميق للأقوال والأدلة، فإنها أيضاً تشجع على النظر لهذه الأقوال والأدلة وغيرها نظرة موضوعية وعلمية، دون الانبهار أو التبعية المطلقة لها، بالرغم من احترامهم الكبير لأصحابها، بل تحاول مناقشتها إن كانت قابلة للمناقشة، أو تقبلها ولكن ليس عن تقليد، بل عن اقتناع علمي وموضوعي. والملاحظ أن مناقشتهم لها ليست لمجرد الرغبة في المناقشة، بل لأجل الوصول للحجة الشرعية كما سنذكره، ويحاول علماء هذه المدرسة تنمية روح النقد في طلابها لمختلف البحوث، ودفعهم لتقويمها، ولذلك يحاولون فتح باب المناقشة سواء في الدرس أو في المجالس الخاصة.

3 ـ الإبداع والتجديد:

وهذه الميزة هي من أهم مميزات هذه المدرسة، مما يؤكد عليها منهج البحث الحديث، أي الإبداع في الرأي والتجديد في البحث، دون الاكتفاء بنقل كلام الآخرين أو تقليدهم من دون أن يقدَّم جديد في البحث. والملاحظ أن هذه المدرسة لا تكتفي باجترار آراء الآخرين وبحوثهم، ومحاولة توضيحها أو تنسيقها فحسب، بل يحاول علماؤها ، بالاضافة لذلك كله، إبداع الجديد فيها، من رأي أو إشكال أو دليل أو غيرها، فيما إذا أوصلتهم النظرة العلمية والموضوعية له; لذلك يلاحظ أن أكثر المتصدين للبحث الخارج يطرحون الجديد في بحوثهم، بل ربما كان لبعضهم مدرسة جديدة في الفقه والأصول، تفرض تأثيرها على الدراسة العلمية في الحوزة، ولكن ربما ضحى البعض بالمنهج والأسلوب والتوضيح، من أجل الحفاظ على عمق البحث وتطوير الفكرة، وربما لم يتعرض في البحث الخارج لتوضيح بعض المفاهيم والمسائل لافتراض علم الطالب بها، وإنما عليه الدخول في مرحلة الاجتهاد والإبداع لتسير الحوزة في مسار تكاملها; ولأجل ذلك يلاحظ أن أكثر الكتب، سواء كانت تأليفاً أو تقريراً، مشتملة على تحقيقات جديدة، لا توجد في بحوث الآخرين، ولكن هذا الشيء من الإبداع والتجديد، كما ذكرنا، ليس لمجرد الرغبة فيه، بل لأجل الوصول للحجة الشرعية ; لذلك فإنهم بعد استيعابهم لأكثر المفاهيم والقواعد والبحوث الأصولية والفقهية، والتعرف على مختلف الآراء والأدلة والإشكالات خلال مسيرتهم الدراسية، بعد ذلك كله يتجهون للإبداع والتجديد في هذه المجالات; لذلك تكون إبداعاتهم موضوعية وعلمية، يكتب لها البقاء والتداول في الحوزات الدراسية، فربما كان هناك دليل أو إشكال واحد في المسألة، يغني عن أكثر من دليل أو إشكال، لتوفره على عناصر القوة دون غيره.

ومن معالم تجديدهم وضع المصطلحات والقواعد، وصياغتها صياغة محددة، والاستدلال عليها لتدخل في بحوث العلماء، بعد أن كانت غير محددة، أو غير مستدلّ عليها ; وهذه الطريقة من الأساليب المنهجية المثمرة للبحث العلمي.

وكذلك من معالمه التوسع بالبحوث، وإضافة مسائل جديدة ; لذلك يلاحظ التوسع والتطور المستمر في البحوث الفقهية والأصولية(4).

4 ـ الورع في البحث:

ذكرنا أن علماء هذه المدرسة لا يطرحون رأياً أو دليلاً أو إشكالاً، إلاّ وهو في اجتهادهم ونظرهم الحجة شرعاً، فإن بحوثهم مقرونة عادة بالورع والتقوى ومراقبة اللّه وطلب مرضاته، والخوف من الحساب وأهوال القبر، فيحذرون من طرح رأي أو حكم غير مقتنعين به شرعاً، أو لم يبحثوا عن
مختلف أدلته، وبخاصة إذا تبنّوا هذا الرأي، وأفتوا به; لذلك  تلاحظ كثرة احتياطاتهم في الفتاوى، ولعله لأجل ذلك يغلب  عليهم قلة الكتابة أو النشر، خوفاً من أن يكون فيها ما  يخالف الشارع المقدس، وقد نقل عن بعض أنه اتلف كتاباته أو ألقاها في الماء لأجل ذلك، وينقل الشيخ محمد تقي الفقيه عن السيد الحكيم، أنه كان لا يكتب في مستمسكه إلاّ ما هو مقتنع به شرعاً، لذلك ربما نهض ليلاً وحذف أو أصلح ما كتبه ; لأجل تنبهه إلى عدم الاقتناع به شرعاً.

ولولا حركة التقريرات وكتابتها ونشرها، لضاع الكثير من البحوث والآراء العلمية الفقهية والأصولية وغيرها لأعلام الحوزة العلمية، وهذا الورع في الكثير من علماء الحوزة، لا يختص بكتاباتهم وبحوثهم العلمية، بل ينسحب على سلوكهم في مختلف مجالات حياتهم، ولعل مما يرسّخ حالة الورع المحيط الاجتماعي للحوزة، والدروس أو الأحاديث الأخلاقية، والعلاقات القائمة على أساس الورع والتقوى، وكذلك مجاورة أكثر الحوزات لمشاهد المعصومين ـ عليهم السلام ـ، وماتلهمه هذه المشاهد والزيارات المتكررة لها من صفاء روحي ومشاعر معنوية، وغيرها من العوامل التي لها تأثيرها في تكوين حالة الورع، والالتزام الشديد بالضوابط والأحكام الشرعية(5).

5 ـ الانفتاح على سائر العلوم:

تحاول هذه المدرسة الاستفادة من سائر العلوم والمجالات الثقافية ، مما له تأثيره في البحث الفقهي أو الأصولي، وبجودة الاستنباط وإصابته، كالنحو واللغة والبلاغة والفلسفة والكلام والمنطق والتفسير، بل حتى علم الهيئة وبعض مسائل الرياضيات وغيرها، ولكن علماء هذه المدرسة لا يتقبلون آراء وبحوث هذه العلوم دون اقتناع علمي، وإنما يحاولون دراستها وتقويمها، بل ربما توصلوا من خلال بحثهم فيها إلى آراء متطورة، أو مخالفة لآراء علمائها المختصين حسب المقاييس العلمية، ولعلها أكثر دقة وصواباً وتطوراً منها، ففي مباحث الألفاظ يلاحظ توصلهم لآراء نحوية أو
لغوية متطورة، وعميقة، أو مخالفة للآراء المعروفة في النحو واللغة، كما يلاحظ ذلك في مبحث الوضع، والمعنى الحرفي، والمشتق، وغيرها مما توصل إلى ما يشابهها البحث النحوي واللغوي الحديث، وكذلك الأمر في البحوث الفلسفية والمنطقية، حيث توصلوا لآراء جديدة فيها. وهم يعتمدون في الكثير من بحوثهم على التتبع والاستقراء للغة العرب، بل بعض اللغات الأخرى، واستعمالاتها مع اجتهاد وتقويم منهم لهذه الاستعمالات وآراء العلماء والباحثين حولها ، وكذلك تعتمد التتبع لسيرة العقلاء ومرتكزاتهم، والفهم العرفي والوجدان، حيث تمتاز هذه المدرسة بالدقة والعمق في التعرف على هذه المجالات العرفية والعقلائية، وفي استكشاف مرتكزات العقلاء وسيرتهم، والفهم العرفي وغيرها. وإنما يبحث عن هذه المجالات لأن الأدلة والنصوص الشرعية والمسائل الأصولية والفقهية تعتمد كثيراً عليها.

والغالب في أبناء هذه الحوزات، وبخاصة حوزة النجف، تذوقهم للأدب، وإحاطتهم به، وقد شجع على ذلك المحيط النجفي ومجالسه وحفلاته، حتى نبغ منهم بعض الأدباء والشعراء، ونحن نعلم مدى تاثير هذا الذوق والمعرفة والروح الأدبية في فهم النصوص ودراستها .

6 ـ التخصص:

الغالب في أبناء هذه الحوزة التخصص في الفقه والأصول، ونحن نعلم ما لهذا التخصص من تأثير في تطوير الحركة العلمية وإثرائها، ولكن مع ذلك لهم اهتمامهم بسائر المجالات الثقافية والاجتماعية، وبخاصة حينما تشعر الحوزة بالخطر على كيان الاسلام والمسلمين ومبادئ أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، فكانت تندفع بكل بسالة، للدفاع عنها والحفاظ عليها، وبمختلف الأساليب، بإصدار الفتاوى ضد المبادئ الكافرة والمنحرفة، ومواجهة السلطات الجائرة، وتأسيس المؤسسات والجمعيات، والقيام بمهمة التبليغ والإرشاد، وإقامة الحفلات والاجتماعات، وإصدار المجلات والكتب، وسائر النشاطات والخطوات بل ربما تفرغ البعض لها، فكانت لبعضهم مؤلفات متألقة وخالدة في هذه المجالات، أمثال الشيخ البلاغي في رد الملحدين والمبشرين، والشيخ الأميني في رد أعداء أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، والسيد محمد باقر الصدر في رد الفكر الماركسي والرأسمالي، وغيرهم. ولا  ينحصر اهتمامهم في بلدهم، بل لهم اهتمامهم بسائر المسلمين والشيعة في مختلف الأقطار.

وقد ذهب بعض العلماء أن للتعرف على بعض العلوم والمجالات الثقافية، تأثيره الكبير في تطوير البحوث الفقهية والاصولية، وبخاصة التي لها علاقة بهذه البحوث، كبعض الدراسات اللغوية والنحوية والبلاغية، والفلسفية والمنطقية، والنفسية والاجتماعية والقانونية، وغيرها. وقد رأينا أن نظرية حساب الاحتمالات استفيد منها في البحث الاصولي وغيره، وكذلك استفيد من بعض النظريات النفسية واللغوية في مبحث الوضع، كما أن علماءنا السابقين تعرفوا على سائر العلوم والمجالات الثقافية، واستفادوا منها في بحوثهم الفقهية والأصولية، مع حصول التطور والعمق أو ظهور الخطأ في بعض تلك المسائل التي اعتمدوها، وغيرها من العوامل التي تدعو للتعرف عليها، يضاف لذلك أن مسؤولية التبليغ وإرشاد الناس، ومواجهة المذاهب والمبادئ المنحرفة، وغيرها مما يشكل بعض مهام الطالب الحوزوي، تفرض التعرف على بعض المجالات الثقافية، ولعله يؤيد ذلك اهتمام الفقهاء المتقدمين بسائر المجالات الثقافية، بل  ربما ألف البعض منهم في التفسير والكلام والتاريخ وغيرها، وإن  كان يصعب ذلك على المتأخرين لتوسع الفقه والأصول  وتطورهما كثيراً، ولكن مع ذلك، فللبعض منهم اهتمامهم  بها، بل تأليفهم فيها، مما يدل على إمكان الجمع بين الفقه  والأصول وبعض المجالات الثقافية. والبحث عن هذا الجانب يحتاج لدراسة أوسع.

 

7 ـ التجديد في المنهج:

ولا ينحصر تجديدهم وإبداعهم في الفكرة فقط، بل ربما شمل المنهج أيضاً من حيث الأسلوب، وتهذيب البحوث، أو تبويبها، ففي مجال التبويب نلاحظ أن الشيخ الأنصاري قام بتبويب الأصول حسب مراحل الاستنباط والحالات النفسية، من القطع والظن والشك، وتقديم الأمارات على الأصول، والأصول المحرزة على غير المحرزة، وتحديد موضوعات هذه الطرق والأصول، حيث كانت بعض الأدلة والأمارات والأصول متشابكة في أذهان السابقين، أو غير محددة الموضوع، وربما ذكرت هذه المدرسة بعض المسائل كمسائل رئيسية، بينما لم تكن رئيسية، أو لم يتنبه إليها سابقاً، كمبحث اجتماع الأمر والنهي، والترتب، وغيرهما، وربما أهملوا البحث عن بعض المسائل لعدم تأثيرها في الاستنباط، أو لوضوح بطلانها، أو لانقراض عصرها، كمسألة الانسداد، أو مسائل الإماء والعبيد، وغيرها، ولكن ربما بحث البعض عنها، بالرغم من تأكيدهم على عدم جدوى البحث أو التوسع فيها، وإنما بحثوها تبعاً للعرف السائد، أو لتأثيرها العلمي في تعليم الاستنباط، وربما أشاروا خلال بحوثهم إلى أن الأفضل تغيير المنهج، أو ترتيب البحوث بصورة أخرى، فيلاحظ أن البعض يرى تقديم بحث التعادل والترجيح بعد مبحث حجية خبر الواحد، وكذلك تأخير بحث الإجماع عنه، لترتبها على مبحث حجية خبر الواحد، وربما صاغ العالم البحث صياغة أخرى، هي في رأيه افضل من الصياغة المتعارفة، في تفهيم الطالب أو القارئ، وغيرها من الملاحظات المنهجية، التي تدل على أن علماءنا لم يكونوا غافلين عن المنهج في بحثهم أو كتابتهم، ولم تكن منهجيتهم تلقائية، بل كان البعض منهم يخطط للبحث بما هو أفضل حسب رأيه.

ولأجل هذه الروح التجديدية منهم في الفكرة والمنهج، ظهرت في حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة بعض الكتب، التي حاول مؤلفوها من خلالها تطوير الدراسة الحوزوية في مختلف المراحل الدراسية، كما في كتاب أصول الفقه للشيخ المظفر، وحلقات الأصول للشهيد السيد الصدر ـ قدس سره ـ، وغيرهما.

 

ملاحظات على الدراسات الحوزوية

تلاحظ على الدراسة الحوزوية بعض الملاحظات، مع الاعتراف بكل ما تملكه من مميزات أشرنا لبعضها، والغالب في هذه الملاحظات أنها تتعرض للأسلوب والمنهج أكثر مما تتعرض للفكرة، وبعد ظهور علم المنهج، والبحوث والقواعد الجديدة فيه، يجدر بأبناء الحوزة التعرف عليها، كموقفهم من سائر العلوم والمجالات الثقافية إذا كان لها تأثيرها في بحوثهم، مع دراستها دراسة موضوعية علمية لإمكان الاستفادة منها، فربما تُوصل إلى منهج أفضل يختص بالبحث الفقهي أو الأصولي.

وقبل استعراض الملاحظات يجدر التمهيد لذلك بمدخل، يلقي ضوءاً على مراحل الدراسة الحوزوية وكتبها المقررة، فالمعروف أن مراحل الدراسة في الحوزة ثلاثة: المقدمات، والسطوح، والبحث الخارج، والكثير يعرف خصائص كل مرحلة، حيث تدرس في المقدمات والسطوح كتب معينة، وأما في البحث الخارج فليس هناك كتاب معين، بل يراجع الأستاذ مختلف المصادر إضافة لمعلوماته المودعة في ذهنه خلال رحلته الدراسية ; لذلك يجدر أن نتحدث حول الكتب الدراسية والمصادر، وطريقة البحث عند العلماء من خلال ثلاثة مجالات:

المجال الأول: كتب الحوزة على ثلاثة أقسام

1 ـ كتب الشروح: وهي شروح لكتب سابقة، كالروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، والجواهر شرح استدلالي للشرائع، والمستمسك شرح استدلالي للعروة الوثقى، وغيرها، وفي هذا القسم يتقيد المؤلف بتبويب الكتاب الأصل، ومسائله، وقد يتعرض لمسائل أخرى خلال الشرح.

2 ـ الكتب المستقلة: بأن تؤلّف كتب مستقلة في الفقه أو علم الأصول ، دون أن تكون شرحاً لكتاب سابق، أمثال  كتاب  المكاسب والرسائل والكفاية وغيرها، ويكون  فيها  المؤلف أكثر حرية في اختيار المسائل ومنهجية الكتاب، فربما اختار المسائل الفقهية الجارية في عصره، أو اعتمد تبويباً آخر  غير المتعارف في سائر الكتب، وإن كان الغالب التشابه في  المنهجية.

3 ـ كتب التقريرات: وهي ما يكتبه الطالب تقريراً لبحوث أساتذته، وبخاصة في البحث الخارج، ولولا هذه الكتب لضاعت بحوث وآراء الكثير من علماء الحوزة، وقد ذكرنا ذلك، والشواهد كثيرة أمثال تقريرات دروس الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني، والمحقق العراقي والشهيد الصدر وغيرهم.

المجال الثاني: تنقسم الكتب حسب أهداف المؤلفين من كتابتها إلى ثلاثة أقسام

1 ـ الكتب الدراسية: بأن يكون هدف الكاتب من كتابته أن يكون كتاباً دراسياً يدرس في الحوزة، كما ذكرنا ذلك حول أصول الفقه وحلقات الأصول، وتمتاز هذه الكتب ببعض الخصائص في الأسلوب والمنهجية، وملاحظة مستويات الطلاب، وربما احتاجت إلى جهد أكبر، أو لجنة تشرف على مدى التزامها بهذه الخصائص.

 

2 ـ كتب للتأليف: والهدف منها أن يكون الكتاب كسائر المؤلفات، وهي تمتاز أيضاً ببعض المميزات من حيث المنهجية والأسلوب، ولكن لا تتقيد ببعض الخصائص التي يتمتع بها الكتاب الدراسي، ولعل كتاب المكاسب من هذا القسم.

3 ـ الكتب التي يدون فيها الكاتب معلوماته وآراءه من أجل حفظها من الضياع والنسيان، وهي لا تملك مميزات كتب الدراسة والتأليف من حيث التنظيم والمنهج والأسلوب.

والملاحظ تنبه بعض علمائنا للفرق بين هذه الأقسام، حيث أشاروا إليه في أحاديثهم، كما ذكر الشيخ المظفر في مقدمته لكتاب الجواهر عن صاحب الجواهر ما يدل على ذلك، وأشرت للشواهد في دراستي عن الشيخ الأنصاري.

المجال الثالث: يلاحظ وجود طريقتين للعلماء في البحث الفقهي والأصولي

الطريقة الأولى: أن يعتمد الباحث على ما امتلأ به ذهنه من معلومات فقهية أو أصولية خلال مسيرته الدراسية، ومراجعة أدلة المسألة، وملاحظة الآراء والكتب المعاصرة ; لأنها تستبطن آراء السابقين، وتمثل آخر ما وصلت إليه الأفكار من تطور وعمق وتوسع.

الطريقة الثانية: أن يراجع الباحث ـ إضافة لمعلومات وأدلة المسألة ، وآراء المعاصرين وكتبهم ـ الكثير من آراء السابقين وكتبهم، وبخاصة القدماء، بل ربما راجع كتب أهل السنة وآراءهم ورواياتهم ; لما يعتقده البعض من تأثيرها في فهم رواياتنا، لأنها ناظرة أحيانا لأحكامهم ورواياتهم، فيختلف الباحث في هذه الطريقة عن الأولى بسعة مراجعاته.

والعلماء على طائفتين، فبعضهم يعتمد الطريقة الأولى، وينهج البعض الآخر الطريقة الثانية; ولكل منهما ما يبرر طريقته علمياً.

وفيما يلي أهم الملاحظات التي تذكر حول الدراسات الحوزوية تأليفاً ومنهجياً وهي:

أولاً: ضعف الاستقراء والتتبع: يلاحظ على العلماء في مباحث الألفاظ من الأصول، والمسائل اللغوية والنحوية في البحث الفقهي، استقراؤهم وتتبعهم في كلام العرب نثراً وشعراً; مع أن هذه المسائل تعتمد على الاستقراء والتتبع.

ثانياً: التأثر بالفلسفة: يلاحظ عليهم تأثرهم بالمفاهيم والقواعد والأدلة الفلسفية في البحث الفقهي والأصولي، مع اختلاف مجالهما عن مجال الفلسفة، كما سنوضحه، ولعله يضاف لذلك اعتمادهم الفهم العقلي الدقيق في دراسة النصوص، مع أنه يلزم الاعتماد على الفهم العرفي أو العقلائي.

ويلاحظ على هذين الاعتراضين ما يلي:

أن ما ذكر في الاعتراض الأول من ضعف التتبع والاستقراء، لا  يمكن الأخذ بعمومه، فهناك الكثير من علماء الأصول استخدموا التتبع والاستقراء في لغة العرب والنصوص، ولكن بما أن مجال بحثهم هو النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وأنه ربما كان للشارع أساليب ومعان خاصة في كلامه، حيث أخبر الأئمة ـ عليهم السلام ـ في بعض أحاديثهم أن الرجل لا يكون فقيهاً إلاّ إذا عرف معاريض كلامهم ولحنه وأساليبه، وأن في كلامهم العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والتقية، والتورية، وغيرها، لذلك يلزم التعرف على تلك الأساليب في فهم كلامهم، وهي بدورها لا تخرج عن الأساليب والأصول العقلائية والعرفية لأمثال هؤلاء المتكلمين، وتوضيح الموضوع اكثر في محله، لذلك كانت شواهد العلماء أكثر من النصوص الشرعية، مع الاستعانة لدعمها كثيراً بكلام العرب، واستعمالاتهم شعراً ونثراً، والمفاهيم والمرتكزات العرفية والعقلائية. وربما لم يقتصروا على لغة العرب فحسب، بل تتبعوا سائر اللغات; لما ذكر من أن المعاني النحوية والوظيفية معان موجودة في سائر اللغات، مع اجتهاد منهم في تقويم هذا الاستقراء، الذي استخدموه من أجل الوصول للمدلول التصوري أو التصديقي للألفاظ، معتمدين في ذلك على مختلف الأصول والقواعد والأساليب العقلائية والعرفية، والشواهد كثيرة على هذا التتبع والاستقراء مع اجتهادهم فيه.

فمنها تتبعهم للمعاني التي ذكرت في كتب اللغة والفهم العرفي للفظ الأمر، حيث أرجعها الأصوليون لمعنىً واحد أو معنيين، وكذلك المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر (افعل)، حيث يلاحظ تتبعهم للمعاني ، واجتهادهم في تفسيرها. وقد ذكروا ذلك في بداية بحث الأوامر، ولعل رأيهم في هذا المجال تابع لرأيهم العميق في كتب اللغة وأقوال اللغويين بصورة عامة، ومدى حجيتها، وقد بحثوا هذا الموضوع في مبحث حجية الظواهر من علم الأصول.

ومنها تفسيرهم لمدلول هذا الحديث الشريف « لا ضرر ولا ضرار »، حيث ذهب شيخ الشريعة الأصفهاني في رسالته حول قاعدة لا ضرر إلى دلالته على النهي، واستدل على رأيه بنصوص من الكتاب والسنة ولغة العرب واستعمالاتهم، بينما ذهب غيره إلى دلالته على النفي، واستدل أيضاً على رأيه بالنصوص والاستعمالات.

ومنها ما ذهب إليه البعض من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، واستدل عليه بوقوعه في كلام العرب، والوقوع أدل دليل على الإمكان، كما ذهب لهذا الرأي الشيخ محمد رضا الأصفهاني في كتابه وقاية الأذهان، وذكر شواهد كثيرة من كلام العرب، استعمل فيها لفظ واحد في معان عديدة(6).

ومنها ما اختاره بعض الأصوليين في المجاز كما اختاره السكاكي في الاستعارة، وأنه ليس من قبيل الاستعمال في غير معناه الموضوع له، بل في المعنى الموضوع له، بتوضيح يذكر في محله، حين يبحث عن المجاز في بدايات مباحث الألفاظ. وقد ذكروا شواهد كثيرة على هذا الرأي من كلام العرب شعراً ونثراً، ذكر قسماً منها الشيخ محمد رضا الأصفهاني في كتابه وقاية الأذهان(7).

ومن الشواهد على تتبعهم واستقرائهم، تتبعهم لمعاني الألفاظ التي تؤخذ موضوعات للأحكام في النصوص الشرعية، فيما إذا لم تكن لها حقيقة شرعية، أمثال لفظ الغناء، والغيبة، والصعيد، والبيع، وغيرها، سواء معانيها اللغوية أو العرفية، مع بيان الحق فيها، مع كون المعنى المعتبر هو فهم العرف لمعنى اللفظ في زمان صدور النص، وقد يكون في مكانه أيضاً، وربما اختلف عن معناه في أصل اللغة، أو عن فهم العرف له في زمان أو مكان آخر، وحتى الألفاظ التي لها حقائق شرعية، يبحثون عن معانيها اللغوية والعرفية أيضاً، والمناسبة بينها وبين المعنى الشرعي، وغيرها من الشواهد على تتبعهم واستقرائهم مما يلاحظها الباحث في الكتب الفقهية. وإنما ذكروا بعض الشواهد نماذج للشواهد الأخرى، لا حاجة معها لتتبع جميع الشواهد والنصوص.

وأما ما ذكر في الاعتراض الثاني من اعتمادهم القياس العقلي المجرد، أو الاستدلالات والقواعد والمفاهيم والمصطلحات الفلسفية، أو الفهم الفلسفي أو العقلي الدقيق، بينما الألفاظ والمعاني أمور اعتبارية ووضعية، وتعتمد على الفهم اللغوي أو العرفي، فيمكن تعميم هذا الاعتراض لسائر البحوث الفقهية والأصولية التي تعتمد القواعد الفلسفية، على اعتبار أن الأحكام الشرعية، والمسائل الفقهية والأصولية أمور اعتبارية وضعية، لها خصائصها وقوانينها، وأما المبادئ والقوانين الفلسفية فلا تجري فيها، لأنها إنما تجري في الأمور الحقيقية والتكوينية، فهناك فرق بين المجالات الحقيقية، والمجالات الاعتبارية، ولكل منها خصائصه وأحكامه، والخلط بينهما أوقع بعض العلماء في الالتباس والاشتباه في الكثير من مسائل العلوم ، كما أشار لهذه النقطة الهامة الشيخ المطهري في تعليقاته على كتاب أصول الفلسفة(8).

وتجدر الاشارة إلى أن السيد الطباطبائي والشيخ المطهري في كتاب أصول الفلسفة بحثا بتوسع الأمور الاعتبارية، وفرقها عن الأمور الحقيقية، ومن أراد الاطلاع على ذلك فعليه بمراجعة الكتاب المذكور، كما أن علماءنا خلال بحوثهم الفقهية والأصولية أشاروا إلى الفرق بينهما، حيث ذكروا أن الأمور الاعتبارية أمور فرضية في واقعها غير حقيقية، وتختلف باختلاف الأنظار، كالأحكام الشرعية، والقوانين الوضعية، وكالعملة الورقية مثلاً، حيث تقتضي جعلها بعضُ المصالح من أجل تنظيم حياة الفرد والمجتمع، وربما تغيرت بتغير الأزمنة والأمكنة، وأما الأمور الحقيقية والتكوينية فهي مما تختلف فيها الأنظار، كالمسافة بين الأرض والشمس مثلاً، فهي حقيقة واحدة يختلف العلماء في تحديدها، ولكنها لا تتعدد بتعدد الآراء والأنظار.

لذلك يمكن تعميم هذا الاعتراض لسائر البحوث الفقهية والأصولية ، حيث يذكر العلماء في هذه البحوث المفاهيم والقواعد الفلسفية، وقد ذكرت الكثير منها وشواهدها وآراء العلماء في هذا المجال، وما يمكن أن يلاحظ على هذا الاعتراض ببعض الملاحظات، وما يمكن أن يذكر من مبررات لاستخدام المفاهيم والقواعد الفلسفية في البحث الفقهي والأصولي، في مقال لي حول مدى تأثر علماء الفقه والأصول بالفلسفة، نشر في مجلة رسالة الثقلين في ثلاث حلقات(9)، وسنذكر خلاصة له مع ما استجد من آراء في هذا المجال، على شكل نقاط تمثل الجواب عن هذا الاعتراض في القسم الثاني إن شاء اللّه.

خلاصة ما استجد من آراء في مجال استخدام المفاهيم والقواعد الفلسفية في البحث الفقهي والاصولي جواباً على ما ذكر من اعتراض على ذلك:

1 ـ إن علماء الاصول والفقه توصلوا إلى بعض المفاهيم والقواعد الاعتبارية أو العرفية أو العقلائية، ولكنهم حاولوا تشبيهها ببعض المسائل الفلسفية والحقيقية، لا لأجل إرادتهم حقاً للمعنى الفلسفي، بل يريدون منها معاني اعتبارية ; لذلك لم يجروا فيها أحكام وقواعد المجالات الفلسفية والحقيقية، فمثلاً المحقق الأصفهاني في المعنى الحرفي لا يريد أن يقول بوضع الحروف للوجود الرابط. كما توهم، بل إن رأيه هو أنها وضعت للنسبة، ولكنه شبه النسبة بالوجود الرابط للتشابه بين طبيعتيهما.

كما يشير لذلك في كتابه الاصول على النهج الحديث(10)، وكذلك في بحث المشتق، فقد شبه العلماء الأصل في المشتقات، والهيئات العارضة عليه، بالمادة أو الهيولى الأولى، والصور العارضة عليها، وكذلك يلاحظ تعبيرهم عن بعض المفاهيم الاعتبارية بالعلة والسبب والشرط وعدم المانع وغيرها، ولا يريدون محتواها الفلسفي والتكويني، وإنما أرادوا التشبيه بها، ومما يدل على توجه علمائنا، ومنهم السابقون، إلى هذا الاختلاف بين عالم التكوين والفلسفة، وعالم التشريع والاعتبار، هذه الفكرة التي تتردد كثيراً في كتبهم منذ القديم في الفقه والاصول: (إن الاسباب الشرعية معرفات لا علل أو لا  مؤثرات)، وهو يدل على إرادة معنىً آخر من الأسباب غير معناها الفلسفي المصطلح، وإنما استخدموا اللفظ الفلسفي للتعبير عن هذا المعنى الآخر(11).

ولعل السبب في استخدامهم المصطلحات الفلسفية، هو قصور اللغة في التعبير عن المفاهيم والقواعد الاعتبارية والقانونية، أو هو دراستهم وإعجابهم بالفلسفة، أو غيرهما من أسباب.

2 ـ إن الكثير من علمائنا يفرقون بين الفهم أو الحكم العرفي والعقلائي، والفهم أو الحكم العقلي أو الفلسفي، وبين القاعدة العرفية والاعتبارية، والقاعدة الفلسفية والعقلية الدقيقة، لذلك نراهم يعترضون على بعض العلماء الذين اعتمدوا الفهم الفلسفي أو العقلي الدقيق، بأن النصوص تعتمد الفهم العرفي أو العقلائي، أو أن القاعدة الفلسفية أو العقلية لا تجري في مجال الأحكام الشرعية، والشواهد على هذه الحقيقة كثيرة، ذكرتها في المقال(12); ولأجل ذلك دعا بعض العلماء إلى عدم الخلط في البحث الفقهي أو الأصولي خاصة، بين المفاهيم والقواعد الفلسفية والمفاهيم والقواعد الاعتبارية; لاختلاف الموضوع فيهما في الخصائص والأحكام، وللتأثير السلبي لهذا الخلط في العلوم، كما أشرنا لذلك، وأكدّه المحقق الأصفهاني(13)، والسيد الطباطبائي(14) صاحب تفسير الميزان، والشيخ المطهري(15)، وغيرهم من علمائنا، ذكرنا أقوالهم في المقال المذكور. ولعله يظهر من بعض الشواهد أن بعض العلماء الذين هم أكثر تخصصاً واهتماماً بالفلسفة، كانوا أكثر تمييزاً بين مجال الفلسفة وغيره، وكانوا يحاولون تجنب التأثر بالفلسفة أو الفهم الفلسفي أو العقلي الدقيق، في مجال دراستهم للفقه أو الأصول أو النصوص الشرعية، كما يلاحظ ذلك عند السيد الطباطبائي في حاشيته على الكفاية وغيره ; وأشرنا لذلك كله في المقال المذكور.

ومما يدل على تنبيه علمائنا للفرق بين المجالين، اعتراضهم على بعض العلماء الذين يجرون القواعد الفلسفية في غير مجالهما، فمثلاً اعترض العلماء المتأخرون على صاحب الكفاية في إجرائه قاعدة الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد، في مسألة موضوع العلم واحتياجه لموضوع واحد، وفي بحث الصحيح والأعم في احتياجهم القول بالصحيح إلى جامع واحد، وغيرها من الشواهد على هذا الاعتراض.

3 ـ إن بعض علماء الفقه والأصول يرى جريان بعض القواعد الفلسفية في بعض المجالات الاعتبارية، كما ذكر ذلك حول مبدأ استحالة اجتماع النقيضين، واستحالة تأثير المعدوم، ومنه تأثير الشرط المتأخر في المتقدم من الأمور الاعتبارية، كتأثير الإجازة اللاحقة في عقد الفضولي(16)، وكذلك ذهب البعض منهم إلى أن الأمر الاعتباري يكتسب بعض أحكام الأمر الحقيقي بعد الاعتبار والوضع(17)، كما وضحناه في المقال.

ولكن يمكن القول بأنه على هذا الوجه يعود الإشكال نفسه، وأنه كيف تجري أمثال هذه القواعد في الأمور الاعتبارية كالأحكام الشرعية، مع أن مجال تأثيرها الأمور الحقيقية والتكوينية ; إلاّ أن يكون مرادهم جريان هذه القواعد في المجالات الحقيقية للأحكام الشرعية، كالمصالح الواقعية التي تمثل ملاكات الأحكام ; ولعله يشير لهذا المعنى السيد الشهيد الصدر في الحلقة الثالثة(18).

كما أن العلماء ذكروا أن الألفاظ يؤخذ مفهومها ومعناها من اللغة أو العرف، فيعتمد في الوصول للمعنى على الفهم العرفي ولكن لابد من الدقة العقلية في التطبيق، فمثلاً مفهوم الكر أو الصاع أو المدّ يؤخذ من العرف، ولكن لا يؤخذ بالمسامحات العرفية في التطبيق، وتوضيحه أكثر في محله.

4 ـ إنهم يفترضون وجود مجالات حقيقية وتكوينية لهذه الأمور والأحكام الاعتبارية والعرفية، حيث يحاولون إجراء تلك المفاهيم والقواعد الفلسفية فيها، ففي الأحكام الشرعية مثلاً يلاحظون ملاكاتها من المصالح والمفاسد الواقعية، أو الإرادة والكراهة والحب والبغض، أو ملاحظة مرحلة الامتثال وعمل الإنسان ; فإنها أمور ومجالات حقيقية تصلح لجريان تلك القواعد الفلسفية والتكوينية فيها. والكثير من أقوالهم في مختلف المسائل الفقهية والأصولية تدل على هذه الحقيقة، فلا يتوجه الاعتراض.

5 ـ الملاحظ أن علماءنا يتمسكون في أكثر المسائل الأصولية والفقهية بالفهم العرفي وسيرة العقلاء ومرتكزاتهم والوجدان، مع ما  يملكونه من ذكاء ودقة وعمق في استكشافها، والتعرف على هذه المجالات العرفية والعقلائية، بل يرون بعض النصوص إمضاء لسيرة العقلاء ومرتكزاتهم، ويعتمدون في دراسة الأدلة والنصوص على الأصول والطرق العرفية والعقلائية، سواء في معرفة مداليلها التصورية أو التصديقية، حيث يحاول الأصولي التعرف على المداليل التصورية، سواء كانت معاني لغوية معجمية للمفردات، حيث تكون هذه المعاني واضحة، أو معاني تحليلية وهي المعاني النسبية التركيبية، أو كما يسميها البعض معاني وظيفية ونحوية، كمعاني الحروف والهيئات وتراكيب الجمل; فإن هذه المعاني الوظيفية، وإن كانت مداليل تصورية كالمعاني المعجمية، ويحمل الناس منها تصورات ومعاني إجمالية حين ارتباطها بالجملة، فإن معرفة المعاني المقابلة للحروف مثلاً بدقة ليست بوضوح المعاني المعجمية، وإنما تحتاج للتأمل في مرتكزات المتكلمين ; ليتعرف على التحديد التفصيلي لتلك الصورة الإجمالية من الحرف، والمعنى المرتكز في أذهانهم له وتفسيره وتحليله ; ومن هنا كان اختلاف العلماء في التحديد الدقيق التفصيلي لتلك المعاني المرتكزة وتفسيرها، كما في معاني الحروف، ومعنى الجملة الخبرية والإنشائية، والمشتق من حيث دلالته على البساطة أو التركيب، وغيرها من المعاني الوظيفية التي يستعملها الناس للتعبير عن أغراضهم ; لأنها ضرورية في استعمالاتهم، ويحملون منها معاني تصورية مرتكزة في أذهانهم.

وكذلك يبحث الأصولي عن المدلول التصديقي التفهيمي، أو الجدي للألفاظ والنصوص أيضاً، حيث يدل اللفظ على قصد المتكلم وإرادته لتفهيم المعنى، أو إرادته جداً وواقعاً، فيتدخل قصد المتكلم وإرادته في هذا المدلول، ولا يستفاد هذا المدلول من مجرد اللفظ وتصوره، كما في المدلول التصوري حيث يكفي فيه مجرد اللفظ، بل لابد من قرينة إضافية تدل على القصد والإرادة كقرينة الحكمة، لذلك يكون المدلول التصديقي مرحلة متأخرة عن المعنى الوضعي ; لأن مرحلة المعنى الوضعي هي مرحلة المدلول التصوري، الذي لا  يتوقف على شيء إلاّ تصور مجرد اللفظ، وأما المدلول التصديقي فيتوقف على تصور اللفظ وعلى إحراز قصد المتكلم وإرداته، ومن المداليل التصديقية دلالة المطلق على الإطلاق، حيث إن الأصوليين المتأخرين ذهبوا إلى أن لفظ المطلق بالوضع يدل على ذات المعنى، ولم يؤخذ فيه الشيوع، وإنما يستفاد الشيوع من مقدمات الحكمة، وكذلك دلالة مادة الأمر أو صيغته على الوجوب، فهو مدلول تصديقي; لأن المعنى الوضعي لهما هو مطلق الطلب، وكذلك دلالة الفعل على الزمان ; فإنه لا يدل عليه بالوضع، بل من سياق الجملة وكون المتكلم في مقام الإخبار عن وقوع شيء أو توقع وقوعه، وغيرها من المسائل(19).

ويعتمد علماء الأصول من أجل الوصول لهذه المداليل التصورية، سواء اللغوية المعجمية، أو التحليلية والمداليل التصديقية، على طرق وأصول عرفية وعقلائية، كالتبادر وعدم صحة السلب، وقرينة الحكمة، وأصالة الحقيقة، وأصالة التطابق بين مقام الإثبات والثبوت، وغيرها من الأصول التي تكتسب حجيتها من العرف والعقلاء.

إذن فهناك بعض المعاني التي يستعملها الناس للتعبير عن أغراضهم ومقاصدهم ; لأنها ضرورية لهم، ولكنها تحتاج للدقة في تحديدها تفصيلاً وتفسيرها، سواء كانت تصورية أو تصديقية، وإن كانت موجودة في مرتكزاتهم، وربما عبروا عن عالم الارتكاز بالعلم الإجمالي أو الارتكازي(20)، حيث تجتمع فيه معاني ومعلومات كثيرة، وإن لم يلتفت الإنسان إليها فعلاً أو تفصيلاً. ولعل مقصودهم منه ما  يسميه علم النفس الحديث بعالم اللاشعور والعقل الباطن ; حيث إن هذه المعاني موجودة في ذلك العالم، وإن لم تكن ملتفتاً إليها بالفعل، أو بالتحديد والتفصيل، وإنما تحتاج للمنبه الشعوري في الالتفات إليها فعلاً، أو لباحث خبير يتعرف عليها بالتحديد ويحاول تفسيرها وتحليلها ; ولعلها نظير ما يذكر في قواعد علم المنطق، فإنها ليست مخلوقة من المجهول، بل هي موجودة في العقول السليمة، يسير على خطواتها أصحاب التفكير السليم، ولكن ربما لا تكون تلك الأذهان ملتفتة إليها بكل وضوح وتحديد، ويأتي الباحث المنطقي ليتأمل في أذهان الناس، وفي خطوات تفكيرهم ليكتشفها ويحددها أو يفسرها، والخلاف بين العلماء في الآراء وتخطئة بعضهم الآخر في مجال تحديدها أو تفسيرها.

والشواهد على اعتماد الأصوليين الفهم العرفي والارتكازي والسيرة والوجدان، في استدلالاتهم، كثيرة، مع تأمل وتدقيق منهم فيها، وعدم تقليدهم للآراء المطروحة فيها من الآخرين، دون أن يعتمدوا على القواعد الفلسفية في غير مجالات تأثيرها، فذهب البعض لبساطة المشتق ; لأن المتبادر منه عرفاً مفهوم واحد وصورة مبسطة، وأما التركيب فبالنظر العقلي الدقيق، حيث يحلله العقل المشتق لجزئين وصورتين، المبدأ والذات، ولكنهم ذكروا أن المعيار هو النظر العرفي لا العقلي الدقيق; وهذا يدل على ما ذكرناه، وكذلك مسألة الترتب، وهي من المسائل الأصولية الصعبة، التي يمكن القول بتأثرها ببعض المسائل الفلسفية، أو الفهم العقلي الدقيق ; فإن علماء الأصول يستدلون عليها

بالفهم العرفي وارتكاز العقلاء وسيرتهم، في مجال تعدد الأمر وعدمه أو تعدد العقاب وعدمه(21)، وغيرها من المسائل الأصولية، التي استندوا فيها لفهم العرف وارتكاز العقلاء وسيرتهم، سواء في مباحث الألفاظ كما ذكرنا، أو الأصول العملية، فقد استدلوا بسيرة العقلاء على حجية الظواهر وخبر الواحد والاستصحاب وغيرها، بل جعلوا النصوص الدالة على حجيتها إمضاءً للسيرة، ولكن قد يعبرون عن تلك القضايا العقلائية والعرفية بتعبيرات فلسفية، أو يستدلون عليها بأدلة فلسفية، ولكن هذا لا يخل بعقلائية القضية وعرفيتها، وان اخل بطريقة التعبير والاستدلال.

وهكذا نرى أن الأصوليين، وبخاصة المتأخرون منهم، ولاسيما مدرسة النجف الأصولية، يعتمدون في الغالب على أي دليل آخر على الفهم العرفي وسيرة العقلاء ومرتكزاتهم في اكثر المسائل الأصولية، سواء في مباحث الألفاظ أو الأصول العملية، وأما ذكرهم أحياناً لبعض المصطلحات أو القواعد الفلسفية، فلأجل ما ذكرناه من أسباب، أو لأجل تجاوبها مع الفهم العرفي والعقلائي، أي يعتمدون على الفلسفة في المجال الذي تؤثر فيه الفلسفة، ولا يعتمدون عليها في المجال الذي لا تجري فيه القواعد الفلسفية، وهم متنبهون في الغالب إلى مجال تأثير الفلسفة، وجملة المفاهيم والقواعد التي يلزم اعتمادها في الأصول أو الفقه، كما يدل على ذلك أحاديثهم في بعض المسائل الأصولية أو الفقهية. ولا ننكر وجود استثناءات لهذه القاعدة في بعض المسائل، أو عند بعض العلماء الأصوليين، حيث اعتمدوا على الفلسفة أو الفهم العقلي الدقيق في غير مجالهما.

وأخيراً يمكن القول إن الفلسفة ـ كما ذكر البعض ـ تعبر عن ارتكازات العقلاء على الأمور الحقيقية لا على حقائق الأشياء، ويشهد له ما ذكره البعض أن الحقائق لا يعرفها البشر. وأن الفصول مشهورية وليست حقيقية، ولكن مجال الفلسفة هو الأمور الحقيقية والتكوينية لا  الاعتبارية ; ومن هنا وقع الخلط في كلام البعض.

ثالثاً: ما لاحظه البعض على الكتب الدراسية التي تدرس في مرحلة المقدمات والسطوح، من أنها لا تتوفر تماماً على القواعد المعتبرة في الكتب الدراسية من حيث المنهج والأسلوب والفكرة، وملاحظة مستويات الطلاب في مختلف المراحل الدراسية. ونذكر هذه الملاحظات مع تأكيد أن بعضها يمكن توجيهها لسائر الكتب أيضاً:

1 ـ ما ذكر في مقدمة الحلقة الأولى من دروس في علم الاصول، من أن اكثر هذه الكتب إنما ألّفت من قبل مؤلّفيها لمجرد التأليف أو تدوين الآراء، لا للدراسة، وفرق بين التأليفين كما ذكرنا، حيث يلاحظ في الكتب الدراسية مستويات الطلاّب، والتدرج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقد، بينما في هذه الكتب ربما طرح المعقد قبل عرضه بصورة مبسطة، وكذلك لم تهتم بذكر الأسبق رتبة قبل المتأخر ; لأنه قد يتوقف استيعاب بعض البحوث على فهم بحوث أخرى، فيلزم تقديمها في البحث، فلم يوضع كل بحث فيها موضعه الطبيعي. ويلاحظ ايضاً أنها تستخدم في بداية الكتاب مصطلحات لم يأت بعد تفسيرها، وإنما ذكرت في البداية لأن العالم الذي كتبها، أو الذي كتبت له، محيط بها، حيث إن المؤلفين إنما كتبوا هذه الكتب لأمثالهم من العلماء لا للمبتدئين، كما أن هذه الكتب إنما ألّفت لتعبر عن آراء مؤلّفيها في تلك المرحلة الزمنية التي عاشوها، مع تطور الكثير من تلك الآراء أو تغيرها، ومع هذه الملاحظات لا يحقق الكتاب مهمة الإعداد للمرحلة اللاحقة، ومن هنا يلزم تبويب الكتاب حسب مراحل الفهم والاستنباط. من حيث تقديم بعض الأبواب أو المسائل أو تأخيرها.

2 ـ يلزم دراسة البحوث والآراء المتطورة التي تمهد للطالب في المرحلة اللاحقة، فيدرس في السطوح مثلاً ما سيدرسه الطالب بصورة موسعة ومعمقة في البحث الخارج، ولكنه يدرسها في السطوح بصورة ميسرة ومبسطة بما يتلاءم ومستواه في تلك المرحلة، ويتجنب الآراء والبحوث المهجورة التي ليس لها تأثيرها في الاستنباط، أو التي نوقشت وهجرت، ولا يتعرض لها في المراحل اللاحقة.

3 ـ هناك بعض القواعد والمسائل التي يعتمد عليها كثيراً في الفقه، دون أن تبحث أبواباً أو مسائل مستقلة في علم الأصول والفقه حتى بصورة ضمنية، بالرغم من الابتلاء بها كثيراً، ومن حقها أن يجعل لها باب مستقل أو ضمني في الفقه والأصول، حتى تكون واضحة للطالب أو الباحث الذي يمر بها دائماً، أمثال مسألة الانصراف، والعلة المنصوصة والمستنبطة، ومناسبة الحكم والموضوع، والعرف، وارتكاز العقلاء وسيرتهم، وأمثالها.

ومن هنا يجدر إضافة بعض البحوث التي لها تأثيرها في الاستنباط، والتي كان يذكر قسماً منها علماؤنا السابقون في كتبهم ودراساتهم، ولكنها هجرت في بعض الكتب الدراسية وغير الدراسية، أمثال بعض بحوث السنة كالفعل والتقرير، وبعض بحوث الخبر والدليل العقلي، أو ما يرتبط بالأصول أو الفقه المقارن.

والملاحظ أن بعض الكتب الأصولية الحديثة تعرضت لبعض هذه البحوث والموضوعات، كما أن بعض الكتب الفقهية تحاول البحث بتوسع عن بعض القواعد الفقهية، أو بعض المسائل الدخيلة في الفقه، حينما تواجه هذه القواعد والمسائل خلال بحوثها، وهي طريقة جيدة ومفيدة.

4 ـ يجدر في الكتاب أو البحث الفقهي، سواء الدراسي أو غيره، البحث عن المسائل التي يبتلى بها المسلم المعاصر، سواء في الكتب الاستدلالية أو الرسائل العملية، وترك المسائل المهجورة أو الافتراضية، وكذلك يلزم ذكر الأمثلة والتطبيقات العملية والمعاصرة في مختلف البحوث، للمسائل والقواعد الفقهية والأصولية ; من أجل التعرف عليها، ولتعويد الطالب على التطبيق العملي لما يدرسه ويقرأه.

 

رابعاً: الأسلوب، ويعني طريقة التعبير عن الفكرة، والملاحظ في بعض كتب علمائنا من غير المعاصرين، بل حتى المعاصرين، أن العبارة أضيق من الفكرة، بحيث لا تعبر بوضوح عنها، ويتردد القارئ أن ما فهمه هو مراد المؤلف أم لا ؟ فتتصف كتاباتهم بالغموض والقصور في التعبير، مع العلم بأن الكثير منها متوفر على مميزات الأسلوب العلمي المذكورة في الدراسات الحديثة حول منهج البحث، حيث أنه يمتاز بالوضوح مع التركيز والدقة في التعبير، والإيجاز وكتابة الجملة بأقل ما يمكن من الألفاظ، والارتباط بين الجمل، والالتزام بالقواعد اللغوية والنحوية السليمة والسهلة.

ويضاف لذلك ما يلاحظ في بعض هذه الكتب من التشابك في الأقوال والأدلة والاعتراضات وأجوبتها، حيث إن منهج البحث الدراسي يفرض تمييزها ضمن نقاط محددة، بحيث يعرف القارئ أو الطالب بالتحديد عدد الأدلة والاشكالات وغيرها ; لذلك رأينا بعض الأساتذة لهذه الكتب يحاول في درسه صياغتها صياغة جديدة، وتحديدها ضمن نقاط معينة، وبذلك يخرجها عن التشابك.

وكذلك يلاحظ عدم التزام بعضها باللغة العربية السليمة لغوياً أو نحوياً، فيوضع التذكير موضع التأنيث، أو الإفراد موضع الجمع والتثنية أو بالعكس، وربما كانت اللغة صحيحة نحوياً، إلاّ إنها ليست بالصورة التي يستسيغها الذوق السليم.

هذه كلها تؤدي إلى أن يبذل الطالب أو الاستاذ أو القارئ جهده ومواهبه في فهم العبارة أو توضيحها، أكثر مما يبذله في فهم الفكرة أو تقويمها أو تطويرها.

ويمكن أن نذكر بعض الأسباب لهذا الضعف في الأسلوب:

1 ـ الملاحظ أن بعض الكتب العلمية والدراسية كتبها علماء لم تكن العربية لغتهم الأم، وإنما تعلموها خلال حياتهم الدراسية ونحن نعلم ما لهذا العامل من تأثير في كتاباتهم باللغة العربية السليمة، في مجال تركيب الجمل، واختيار المفردات والجمل التي تعبر بوضوح عن الفكرة باللغة العربية.

2 ـ ملاحظة اختلاف أسلوب الكتابة أو التعبير من عصر لآخر، فما يفهمه القارئ في عصر من أسلوب، ربما يشق على القارئ فهمه في عصر آخر، إلاّ مع شرح يضاف لشرح الفكرة، وخاصة لمن تعود أسلوب عصره، ومن هنا ربما لم يكتب البعض بأسلوب عصره، بل بأسلوب عصر آخر لتعوده إياه.

3 ـ أن بعض العلماء يتعمد التعقيد في العبارة، أو الإيجاز فيها إلى درجة الغموض لأي سبب دفعه لذلك، مع أنه كان من الجدير توضيح الفكرة مهما أمكن في الكتب العلمية والدراسية ; ليتجه شرح الأستاذ وجهود الطالب والقارئ للفكرة ذاتها دون اللفظ، لما لهذا التعقيد من تأثير في ضياع الجهود كما ذكرنا.

4 ـ وربما كان السبب هو عدم اهتمام بعض العلماء بالعبارة، لأنهم كتبوا لأنفسهم من أجل الاحتفاظ بآرائهم من الضياع والنسيان، لا للآخرين، أو أنهم كتبوا لأمثالهم من العلماء لا للطلاب.

وربما كان السبب في ذلك غير ما ذكرنا، كعدم امتلاك الكاتب ملكة التعبير والإنشاء والبيان ; لأن بعض العلماء يملك القدرة على التدريس دون الكتابة، وبعضهم عكس ذلك، وثالث جمع بينهما، وربما كان سبب الغموض عند البعض هو عدم تبلور الفكرة في الذهن، وخاصة في بدايات نشوئها.

وعلى كل حال، فإن أمثال هذه الكتب، وبخاصة الدراسية منها، يجدر توفرها على خصائص الكتب التعليمية من حيث المنهج والأسلوب والفكرة، وملاحظة المستويات كما ذكرنا، ولذلك يجدر التعرف على مميزات الأسلوب العلمي أو الدراسي من قبل الباحثين والكتاب.

خامساً: لاحظ بعض العلماء على علماء الفقه والأصول، اعتمادهم في البحوث اللغوية والأدبية المرتبطة بعلم الأصول والفقه على نظريات قديمة فيها. وقد ظهرت بحوث ونظريات لغوية وأدبية جديدة من الباحثين المعاصرين، يمكن الاستفادة منها في البحث الأصولي أو الفقهي، وكذلك ظهرت آراء فلسفية ومنطقية جديدة، وأخرى في غير ذلك من العلوم الحديثة، يمكن من خلالها معالجة بعض المسائل الأصولية كنظرية الاستقراء وحساب الاحتمالات، فيستفاد من كافة الجهود العلمية التي يمكن أن يكون لها تأثيرها في علم الأصول والفقه، كما أشرنا لذلك، وكذلك يلزم ملاحظة الظروف الراهنة التي تواجه الفكر الاسلامي الشيعي وفقهه وأصوله ; لذلك يجدر أن ندخل في بحوثنا المقارنة مع فقه أهل السنة وأصولهم، بل ربما كان لأحاديثهم وآرائهم الفقهية تأثيرها في فهم بعض الروايات عن ائمتنا المعصومين(عليهم السلام)، والآراء الفقهية لعلمائنا، ومن هنا يكون لها تأثيرها في الاستنباط، كما تبنى هذا الرأي السيد البروجردي، وكذلك تجدر المقارنة مع القانون الحديث، أو مراجعتها لتلبية الاحتياجات التي تفرضها المرحلة الراهنة التي نعيشها، وربما كان لها تأثيرها في فهم بعض الحالات والأحكام العرفية والعقلائية وغيرها.

سادساً: الرجال والدراية: ربما يلاحظ على بعض الكتب الفقهية عدم اهتمامها وتوسعها الكبير بمسائل علم الرجال والدراية، وهذا ما  يمكن ملاحظته أيضاً على كتاب المستمسك، ويمكن أن يلاحظ على ذلك، أن الكثير من علمائنا في كتبهم الفقهية والأصولية، يذكرون في الغالب نتائج تحقيقاتهم وآرائهم في علم الرجال والدراية، ولا  يعني هذا عدم الاهتمام أو الدقة فيها، بل إن الباحث خلال

مراجعته للرواية وسندها يحقق حولها بدقة وتوسع، ولكن في الدرس أو الكتاب يذكر نتائج تحقيقاته، ويدل على ذلك تعبيرهم عن الروايات حسب التقسيم الرباعي للحديث، وربما خالفوا في التعبير من سبقهم، ولعل أسباب قلة اهتمامهم بالبحث الرجالي هي:

1 ـ اهتمامهم أكثر بدلالة الرواية وفهمها، وبالقواعد العقلائية والأصولية والفقهية، والتحقيق والتعمق حولها، وأما البحوث الرجالية فلها علمها وكتبها الخاصة، ككتب الرجال أو قواعد علم الرجال والدراية، ويسهل للباحث مراجعتها وتفهمها، ولاسيما للعلماء والطلاب المتقدمين، حيث لا يتوقف فهمها على الدراسة ; لأنها ليست كالبحوث الأصولية والفقهية الدقيقة التي يصعب فهمها بدون أستاذ أو دراسة، مع تعرض بعض العلماء والأساتذة لمسائلها وبخاصة الدقيقة منها خلال بحوثهم الفقهية والأصولية، ولعله لذلك لم يهتم العلماء كثيراً بمحاولة إدخالها في مناهج الدراسة في الحوزات العلمية. وإن كان من الجدير البحث عن تقييم الرواة وبعض قواعد علم الرجال والدراية خلال البحوث الفقهية والأصولية، أو وضع كتاب في هذا العلم للدراسة في الحوزة ولاسيما للمبتدئين، كما قامت بهذا العمل بعض الحوزات.

2 ـ أن رأي اكثر العلماء هو جبر الرواية الضعيفة سنداً بعمل المشهور بها، ووهن الرواية القوية سنداً بإعراضهم عنها ; لذلك لو  وجدت مثل هذه الشهرة في العمل أو الإعراض، لما بحث عن سند الرواية، وقد أشار العلماء كثيراً خلال بحوثهم إلى هذا الوجه، وهو تأثير عمل المشهور أو إعراضه، بل اعتمدوا عليه في اعتبار الرواية أو عدم اعتبارها، فإذا رأى الباحث أن العلماء خلال هذا التاريخ الطويل، وبخاصة القدماء، قد عملوا ببعض الروايات أو أعرضوا عنها، فهذا مما يدعو إلى العمل بها أو الإعراض عنها ; ولعله لأجل أنه يوجب الوثوق عندهم بصدور الرواية أو بعدمه، مع ذهاب الكثير منهم لحجية الخبر الموثوق به، ولو كان الخبر ضعيف السند، لا حجية خبر الثقة ليهتم بالبحث عن وثاقة الرواة خاصة، بل المهم تحصيل القرائن الموجبة للوثوق بصدور الخبر، ومنها شهرة العلماء.

ولكن هناك بعض الاعتراضات أو الشروط أو الآراء في موضوع جبر الرواية أو وهنها بالشهرة، ولاسيما عند المتأخرين، وكذلك في مدى دلالة أدلة حجية الخبر على حجية خبر الثقة أو الموثوق به، يراجع فيها الكتب الموسعة.

ويؤيد هذا الوجه أن الغالب في الروايات التي يستدل بها للمسألة الفقهية، هي نفسها عند العلماء قديماً وحديثاً، وإنما الاختلاف بينهم في فهمها أو دلالتها. نعم ربما كانت هناك روايات غفل عنها بعض العلماء في الاستدلال بها على المسألة، وهذا مما ينبه له العلماء، ويبحثون عن مدى اعتبار تلك الروايات أو دلالتها، كما قيل في روايات الاستصحاب، من أن والد الشيخ البهائي تنبه لها، كما أن الغالب وجود روايات معتبرة تتضمن نفس المدلول الذي تتضمنه الروايات غير المعتبرة.

3 ـ الغالب في الروايات وضوحها من حيث الاعتبار أو عدم الاعتبار سنداً، ويكفي كل باحث إلقاء نظرة على رواتها، بعد قراءة الأصول الرجالية; ليكتشف ذلك، ولا حاجة معها للبحث عن الرواة تشخيصاً وتقييماً بتوسع، مع محاولة اختصارهم وتركيزهم في كتاباتهم، واستخدامهم الأسلوب العلمي الدقيق، والمطالب العلمية العميقة.

 

نعم إذا كان في الرواية أو السند ما يستوجب البحث عنه دراية أو رجالياً، كاختلاف نسخ الرواية، أو اختلاف الآراء في تشخيص الراوي أو تقييمه، فإن العلماء غالباً ما يبحثون بتوسع في تشخيص النسخة الصحيحة أو تشخيص الراوي أو تقييمه خلال بحوثهم الفقهية، ويذكرون رأيهم في هذا المجال، كما يلاحظ ذلك حول ابن بزيع، وأبي بصير، وإبراهيم بن هشام، وسهل بن زياد، وغيرهم.

وهناك بعض الملاحظات المنهجية في الكتب الدراسية وغيرها، ذكرتها مع شواهدها في دراستي عن الشيخ الأنصاري مقارنة بمعطيات المنهج الحديث، والأسلوبين الخاص والعام.

ولعل من الملاحظات ما ربما يقال عن التصرف في نقل الأقوال حذفاً أو إضافة، حيث لا تنقل أقوال العلماء بصورة كاملة، أو إنه لا  يُنقل النص بنفسه، وإنما ينقل الفهم له، ويعترض على هذا الفهم، أو إنه لا ينقل النص عن مصدره وكتاب صاحب القول، وإنما ينقل من كتب أخرى، ولكن يلاحظ على هذه الملاحظة أنهم يتصرفون في النقل بالحذف أو الإضافة بما لا يخل بالمعنى، حيث إن الغالب على علمائنا التثبت والأمانة في النقل، وشدة احتياطهم وورعهم في ذلك، ويدل عليه محاولاتهم لتفسير أقوال العلماء تفسيراً مقبولاً عميقاً كما ذكرناه، وإذا نقلوا القول عن غير مصدره فإنهم يعبرون بالمحكي، ولا ينسبونه لقائله، ولا ننكر وجود استثناءات وإشكالات في النقل ذكرتها في تلك الدراسة.

والملاحظ عند بعض علماء هذه المدرسة، عدم الكتابة والتأليف أو قلتهما، أو عدم النشر أو قلته، ولهم مبرراتهم الشرعية في ذلك، بالرغم من أن الكثير منهم كان بحراً زاخراً بالعلم والتحقيق، ولكنه اكتفى بالتدريس أو غيره، ولولا حركة التقريرات لم يبق من علمهم وتحقيقاتهم إلاّ بعض الأخبار المتناثرة هنا وهناك.

__________________________

(1) مقدمة كتاب عقد الفضولي: 14.

(2) وهو مستوى من المراحل الدراسية يصل إليه طالب الحوزة العلمية، يتمثل بحضوره درس البحث والاستنباط التفصيلي فقهاً وأصولاً لأحد الفقهاء المجتهدين; ليطلع من خلاله على الآراء والنظريات الفقهية والأصولية المختلفة، ويناقش في أدلتها ومسائلها; ليصل بمعونة الأستاذ المجتهد إلى الحجة الشرعية والنظرية المختارة.

(3) راجع كتاب لمحات من مدرسة الشيخ الأنصاري لكاتب هذه السطور.

(4) ظهرت دراسات حديثة حول عناصر منهج البحث، وقد ذكرت بعض هذه العناصر ومدى التزام علمائنا بها في دراستي حول الشيخ الأنصاري، ويظهر من بعض الشواهد أن منهجهم لم يكن تلقائياً بحتاً كما يتوهم، بل كان البعض ملتزماً بخطة للبحث، وأذكر هنا بعض هذه العناصر:

1 ـ التبويب وتقسيم البحث. 2 ـ تجنب الاستطراد. 3 ـ عدم ذكر الكاتب لأعمق الأدلة ابتداءً، وإنما يذكر أبسطها، أو يناقش أدلة الغير ثم يلقي أقوى أدلته. 4 ـ أن تكون دعائم البحث وأسس الاستدلال قواعد مسلمة، أو يستدل عليها ثم يقيم البحث عليها، ولا يكثر البراهين على مبادئ مسلمة أو يمكن التسليم بها بسهولة. 5 ـ ذكر التطبيقات والأمثلة من الواقع المعاصر. 6 ـ الإبداع في الرأي والتجديد في البحث. 7 ـ صياغة المصطلحات والقواعد صياغة محددة. 8 ـ في دراسة القاعدة تستخدم مراحلها من تعريفها لغة واصطلاحاً، وذكر مصادرها، والدليل عليها، وبعض فروعها، والأحكام التي يمكن استنباطها. منها، والتطبيقات المعاصرة لها، ثم صياغتها صياغة محددة. 9ـ في دراسة النصوص تستخدم مراحل المنهج النقلي من توثيق النص وتحقيقه وفهمه، وغيرها من العناصر.

(5) ذكرت الدراسات الحديثة لمنهج البحث صفات الباحث وشروطه، وقد ذكرتها في دراستي عن الشيخ الأنصاري، ومدى التزام علمائنا بها. نذكر بعضها:

1ـ الرغبة في البحث.

 2 ـ الصبر على البحث.

 3 ـ الشك والتثبت في الرأي وعدم تقبله من أول نظرة.

 4 ـ الموضوعية حين البحث والتجرد عن الأهواء والمصالح الذاتية.

 5  ـ الأمانة في النقل ونسبة آراء الآخرين إليهم.

 6 ـ الجرأة والصراحة في ذكر الحق وإنكار الباطل.

 7 ـ التواضع، فلا اغترار بالنفس أو استهانة بالآخرين.

 8 ـ الموهبة والاستعداد الفطري في البحث، وغيرها من الصفات.

(6) وقاية الأذهان: 83.

وقد ألّف صاحب الوقاية رسالة فيه سماها إماطة الغين عن استعمال العين في معنيين وتبنى هذا الرأي بعض الأعاظم أمثال الشيخ الحائري في درر الفوائد 1: 55.

(7) وقاية الأذهان: 101.

وقد ألّف صاحب الوقاية رسالة فيه سماها جلية الحال في معرفة الوضع والاستعمال، وتبعه بعض الأعاظم أمثال السيد البروجردي في نهاية الأصول 1: 26، ومال إليه السيد الخوئي في المحاضرات 1: 99.

(8) أصول الفلسفة: 92 (بالفارسية).

(9) في الأعداد 9 و10 و11.

(10) الاصول على النهج الحديث : 8.

(11) التنقيح الرائع 2 : 45.

(12) راجع مجلة رسالة الثقلين : 9، 10، 11.

(13) نهاية الدراية 1:12 و171، ويلاحظ ايضاً جواهر الكلام 22:289، وفوائد الأصول 1:176، والمحاضرات 2:309.

(14) حاشية الكفاية للسيد الطباطبائي: 84 و107 و140 و157 و182 و186 و193 و260 و307.

(15) أصول الفلسفة : 92 (بالفارسية).

(16) محاضرات في الفقه الجعفري، تقريرات دروس السيد الخوئي في البيع 2:341، ومنتهى الدراية 2:138 و141.

(17) منية الطالب، تقريرات دروس الشيخ النائيني في المكاسب 1:236.

(18) دروس في علم الأصول 1:340.

(19) يلاحظ دروس في علم الاصول، الحلقة الثالثة 1:89، والبحث النحوي عند الأصوليين: 12.

(20) كفاية الأصول : 18.

(21) يلاحظ محاضرات في أصول الفقه 3:102، ومنتهى الدراية 2:489.