الحوزة وضرورة نهضة علمية جديدة

ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الخامنئي دام ظلّه

]من محاضرة لقائد الأمة الاسلامية وولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الخامنئي ـ مدّ ظلّه ـ ألقاها على طلبة البحث الخارج في بدء العام الدراسي الجديد للحوزات العلمية].
جاء في وصية الرسول لأمير المؤمنين ـ عليهما السلام ـ أنه قال :((ياعلي، إنّ من اليقين أن لا ترضي أحداً بسخط الله ولا تحمد أحداً بما آتاك الله، ولا تذم أحداً على ما لم يؤتك الله، فإنّ الرزق لا يجرّه حرص حريص، ولا تصرفه كراهة كاره. إن الله بحكمه وفضله جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط)) والسخط هنا بمعنى الغضب من جميع الحوادث، فإذا أعطاه الله غضب لأن الله لم يعطه أكثر من ذلك، وإذا أصابه أذى غضب وسخط للذي أصابه. فإذا أراد المرء بلوغ الرَّوح والفرح عليه أن يبحث عن الرضا واليقين. فإذا كان في هذه الدنيا خير ومنفعة فهو من نصيب الزاهد القانع.
بمناسبة بدء الموسم الدراسي الجديد لدينا وفي الحوزة العلمية بقم وسائر الحوزات العلمية، رأينا ضرورة الاشارة ـ قبل الشروع ببحثنا الفقهي ـ إلى بعض الشؤون المتعلّقة بالحوزة وبنا نحن طلبة العلوم الدينية.

كلّما ازدادت أهمية الدين ازدادت أهمية الحوزات

يبدو لنا أنّه كلما ازدادت أهمية الدين في الحياة، ازدادت الى جانب ذلك أهمية الحوزات العلمية. فالدين يمثّل اليوم محور اهتمام علمي، ويحظى الإسلام العزيز والأحكام الإسلامية المقدسة بأهمية بالغة من قبل الساسة والمفكرين والمتخصصين بالقضايا والعلوم الاجتاعية والكثير من الجماهير ـ وخاصة الشباب منهم ـ في الكثير من بقاع العالم، وفي البلدان الاسلامية على وجه الخصوص. ومن المؤكد أن القسم الأعظم من الحادثة التي بدأت منذ عقدين من الزمن خلافاً للتوقّعات وللتيار السائد في العالم، ترتبط بانتصار الدين في هذا البلد واقامة نظام اسلامي. ولهذا فإنّ الدراسات الجارية على الدين اليوم في كل أنحاء العالم، ليست في معزل عن جانبه السياسي، ولا تنظر إليه مجرداً عن تأثيره السياسي؛ وتتخذ المواقف إزاءه وفقاً لهذا الأساس، مثلما أنّ القلوب التي تهفو إلى الدين، وأقصد شباب العالم الاسلامي والأجيال الصاعدة فيه وفي بعض المناطق الأخرى من العالم، لا تُقبل عليه مجرداً عن حضوره السياسي والاجتماعي.
نحن نعيش اليوم في مركز هذا الاهتمام العالمي، أو بعبارة أخرى إنّ الإسلام وخاصة الجمهورية الاسلامية تقع في بؤرة هذا الاهتمام. ولعلّكم تسمعون أو تعلمون بعقد ندَوات تخصصية وعلمية عالمية ذات توجهات مختلفة في بقاع متعددة من العالم وخاصة في بعض الدول التي ليست لها مواقف ودية من الإسلام ومن الجمهورية الاسلامية، من أجل دراسة هذه الظاهرة. وهذا ما يعكس مدى أهمية هذه القضية.


على الحوزات العلمية التخطيط لحركة ونهضة جديدة

ونحن اليوم بصفتنا اُناساً نتمي الى الحوزات العلمية، يجب علينا أن نخطّط لفكر وحركة ونهضة جديدة في منهجنا العلمي وفي مباحثنا الاسلامية، في ضوء هذه الظاهرة العالمية؛ فحينما نشاهد العلم الذي انطلقت هذه الحركة السياسية على أساسه; أي العلوم الاسلامية والمعارف والكلام والفقه، يحظى اليوم بكل هذا الاهتمام من قبل الأوساط العلمية والسياسية العالمية، يجب علينا بذل المزيد من الاهتمام والدّقة وتقييم عملنا من جديد بصفتنا علماء دين وأصحاب رأي في القضايا الدينية.
فاليوم ليس يوماً نستطيع فيه التحدث باسم الدين بكلام غير رصين أو أن نرسم لأنفسنا هدفاً يتعذر علينا استخراجه من المعارف الاسلامية، أو أن نقف مكتوفي الأيدي إزاء ما يدخل ضمن الأهداف الدينية والقضايا الفقهية أو الكلامية المهمّة. وليس هناك لزوم يدعونا الى التثبث بشي آخر سوى المهمّة العلمية من أجل اقتفاء هذا السبيل الجديد. فلو كانت لدينا دوافع بقدر ما يحمله أي عالم من اندفاع علمي إزاء ما يهتم به علمياً، تجاه المباحث الاسلامية ـ ناهيك عن الاعتقاد والايمان والواجب والمسؤولية الدينية ـ واعتبرنا هذه المهمّة العلمية والشعور بالتعلّق بما نؤدي له هذا العمل العلمي ونعتقد به علمياً، فان ذلك يكفي لما نفهمه من الإسلام وننشره باسم الإسلام ولأجل الإسلام، ونفتح له حساباً جديداً.
لا شك في أنّ مركز هذه التوجّهات والدراسات العلمية هو الحوزات العلمية. وهذا لا يعني طبعاً أن الآخرين من غير منتسبي الحوزات العلمية لا يحقّ لهم التفكير أو البحث في القضايا الاسلامية; فالكلام ليس في الحق وعدمه، بل لأن مستلزمات هذه الدراسات لا تتوفر إلاّ في الحوزات العلمية.
إنّ من حق كل انسان أن يصبح طبيباً، إلاّ أنّ من يريد أن يصبح طبيباً عليه أن يدخل كلية الطب، إذ لا ينبغي تحصيل العلم في موضع لا يتوفر الاستاذ والعلم والمختبر والمعلم المتمرّس في هذا المجال. والموضع المناسب لفهم الدين والتعمق في المسائل الدينية الى حد التخصص هو الحوزات العلمية. من الممكن طبعاً أن يكون لدى كل شخص معلومات دينية أدنى من حد التخصّص، إلاّ أن التخصّص في الدين يستلزم دخول الحوزات العلمية والدراسة على يد الأساتذة المتخصّصين في العلوم الدينية وأخذ تلك العلوم عنهم.
وفي المقابل يجب أن تكون الحوزات العلمية قادرة على تلبية هذه الحاجة. فأهمية الحوزات العلمية اليوم لا تنحصر في القدرة على تبليغ هذه الدين ـ فهذا طبعاً واحد من واجباتها الأساسية والمهمّة ـ إلاّ أن الواجب الآخر الذي يفوق أهمية التبليغ، أو يوازيه في الأهمية على أقل تقدير، هو التعليم والتدريس الفني والعلمي للمباني والمعارف الدينية بما في ذلك الفقه أو الكلام أو الفلسفة، أو بقية العلوم التي يحتاجها بالدرجة الثانية. وهذا يعني تزايد أهمية الحوزات العلمية وعلماء الدين ومدرّسي العلوم الدينية والعمل الذي يمارسه طالب العلوم الدينية.

المباحث الأساسية في الحوزات العلمية

أمّا ما هي المباحث التي يجب أن تتخذ كأساس في الحوزات العلمية في هذا المجال، فهذا أمر تحدّثنا عنه مرّات عديدة، ونتحدث عنه هنا مرّة أخرى أيضاً؛ فالفروع الأساسية في الحوزات العلمية هي على الترتيب الآتي : أولاً الفقه، ثانياً الكلام، ثالثاً الفلسفة. فالفقه هو العمود الفقري للحوزات العلمية، وعلم الكلام من الأركان الأساسية لها، والفلسفة جزء من مستلزماتها المؤكدة، فيجب على المدرسين الصالحين الكفوئين والطلبة المجدّين المثابرين دراسة هذه العلوم الثلاثة، ويجب على الحوزات العلمية التحرك في هذا المجال بجدّ ونشاط وحيوية.
وفي الوقت ذاته ينبغي عدم الاكتفاء بهذه الحقول فحسب؛ فهذه هي العلوم الأساسية، ولكن توجد إلى جانبها علوم أخرى يجب الالمام بها، من قبيل التفسير، وعلم الاصول الذي تجب دراسته إلى جانب الفقه كمقدمة واجبة له، فضلاً عن علم الحديث والرجال وكل ما يتعلق بمقدمات فهم الكتاب والسنّة.
هذا إضافة إلى فنون تبليغ الدين؛ فقضية تبليغ الدين في الوقت الحاضر أصبحت قضية علمية، وعلوم الاتصالات التي يبذل لها امكانيات هائلة في جامعات أساليبنا في الارتباط بمخاطبينا، وهي بطبيعتها أساليب جيدّة، إلاّ أنها على كل الأحوال غير كافية. ولا أريد التأكيد على المدراء وواضعي المناهج في الحوزات العلمية بالتخطيط لعملهم في ضوء معطيات هذه العلوم، ووضع القدر اللازم من هذه العلوم تحت تصرّف من يحتاجون إليه وبدرجات مختلفة حسب ما تتطلبه حاجة الحوزات العلمية، وخاصة لمن يعملون في حقل التخطيط والبرمجة لشؤون التبليغ.
ولا شك في أنّ الاطلاع على التيارات الفكرية السائدة في العالم ضروري للحوزات العلمية، وإلاّ فلن نكون واثقين من صحة القرارات والممارسات التي نتّخذها في مجال التبليغ؛ فإذا لم نحدّد مخاطبينا ونكن على معرفة بهم وبالتيارات الفكرية المحيطة بهم، فقد نتحدّث إليهم بأمور لا وجود لها في أذهانهم ولا هي موضع اهتمامهم ولا تدور في عقولهم أية تساؤلات عنها. أي أن العمل الذي أنجزناه كان عبثاً. اذاً تجب معرفة المخاطب وتحديد طبيعته.
ما أكثر الأشخاص القادرين على إقامة جسور الترابط مع مخاطبين ! وما أكثر الأشخاص الآخرين القادرين على اقامة الترابط مع مخاطبين غيرهم ! فالمخاطب يجب تحديده بدقّة. ويجب على الأجهزة الإدارية في الحوزات العلمية أن يكون لديها نشاط وفعالية وتخطيط في هذا المجال.
يجب معرفة المخاطبين والأسئلة التي تختلج في أذهانهم والتيارات الفكرية السائدة عليهم. فهناك في عالم اليوم شبهات ومباحث وآراء جديدة مطروحة على بسط البحث يستند بعضها الى أسس علمية أو شبه علمية. فالشخص الذي يضطلع بمهمة تبليغ الدين وتبيين رؤاه أو بتعبير آخر الدفاع عنه، يجب أن يكون على علم بالتيارات الفكريه وبالآراء الجديدة المطروحة في عالم اليوم. وهذه المعرفة واجبة بالنسبة لحوزاتنا العلمية.
وعلى الطلبة أن يتعلموا أيضاً لغات العالم الحية. ومعرفة على الأقل من اللغات الحيّة الموجودة في العالم تعتبر من جملة المستلزمات والأدوات اللازمة لعمل طلبة العلوم الدينية. وهذا ما ينبغي اشاعته في الحوزات العلمية. ومن حسن الحظ فإنّ الطلبة غالباً ما يكونون من الشباب ويتمتعون بمقدرة عالية على تعلّم اللغات.

هدفنا إعلاء كلمة الله

ومن المباحث المهمة الأخرى أيضاً هو بحث المعنوية والقداسة.
فالفارق الأساسي الذي يميزّنا عن بقية أصحاب الادعاءات في العالم يكمن في وجود هذا الهدف المقدس؛ فنحن نريد السعي في سبيل الله ولأجل دين الله ولنيل رضا الله ولاعلاء كلمة الله. ويجب أن يكون هذا هو هدفنا منذ أن نشرع بالدراسة إلى حين قيامنا بعملية التبليغ أو التدريس أو التصدي لمسؤولية ما في الحوزة أو خارجها، وعند ممارستنا لأي نشاط سياسي أو اجتماعي أو علمي. وهذا هو ما يفضي بنا إلى النجاح ويجعل لكلامنا تأثيراً وجاذبية. ولهذا يجب اعتباره فرضاً محتماً علينا.

علينا بشحذ الهمم والعزائم

في الوقت الذي أتحدث معكم فيه حول هذه الموضوعات، لا شك أن هناك أعمالاً كبيرة قد انجزت في هذه المجالات في الحوزات العلمية وخاصة في حوزة قم المباركة. وقد أصبح البون ملحوظاً اليوم عمّا كان عليه قبل عدّة سنوات؛ فقد أصبحت هناك اليوم دروس في الأخلاق ودروس جيّدة في التفسير وفي الفلسفة، وهناك التبليغ والكلام، وهناك المجلات العلمية المتخصّصة. وهذا هو ما كنا نوصي به ونتمنّاه أخذ يتحقق تدريجياً. وهذا يمثل دليلاً على أن ما كنا نطرحه كأمان لم يكن مجرد أماني فجّة بعيدة المنال، وأن كل هذه الأمور قابلة للتحقيق بهمة أصحاب الهمم وبقليل من الإمكانيات والطاقات، كما حصل في الحوزة العلمية بقم بالدرجة الأولى، وفي بعض الحوزات العلمية الاخرى. وكل الأعمال الكبرى التي نرى وجوبها للحوزات قابلة للتطبيق العلمي ولكن بشروط أن نعقد لها أنا وإياكم العزائم والهمم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته