المرجعية الدينية الصالحة

السيد محمد باقر الحكيم

المرجعية الدينية الصالحة: المرجعية.. موقعها، مهماتها، إنجازاتها(1)

تمهيد: المرجعية تفرض نفسها

(المرجعية الدينية) عنوان مهم، طرح ويطرح للبحث والتداول في ساحتنا الإسلامية..، بل أصبحت المرجعية الدينية ـ بعد انتصار الثورة الإسلامية، ولا سيما بعد تحقق هذا الأمل الكبير باقامة الحكم الاسلامي على يد العالم الرباني المرجع العظيم آية الله العظمى الامام الخميني ـ قدس سره ـ ـ أصبحت من القضايا العالمية التي توجهت لها أنظار جميع الأوساط الثقافية والسياسية باعتبار أن تفجير الثورة الإسلامية في ايران ووجود الصحوة الإسلامية العامة في العالم الاسلامي كان على يد هذه المرجعية الدينية الإسلامية.
وازدادت أهمية هذا الموضوع بارتباطه بموضوع آخر مهم وهو موضوع (ولاية الفقيه) التي اعتبرت الأساس والقاعدة للحكم الاسلامي المعاصر، وأصبح البحث حول تعددها أو وحدتها واتحادها مع الولاية من جهة والعلاقة النظرية بينهما في حالة التعدد من جهة أخرى، مضافاً إلى البحث عن معالجة العلاقة بينهما واقعياً وخارجياً.
وفي الوقت نفسه نجد أن الأعداء يخططون لأجل ضرب هذه المرجعية ومحاصرتها واضعافها أو السيطرة عليها، وتشويه سمعتها والنيل منها، بل تصفيتها تصفية جسدية ومعنوية..، وهناك مخطط رهيب رسمه الأعداء في هذا السبيل، لقد وجدنا في بداية انتصار الثورة الإسلامية في ايران كيف صفيت مرجعية الشهيد الصدر ـ قدس سره ـ في العراق بقتله.. ثم الوسائل الكثيرة التي استخدمها الاستكبار العالمي والقوى المضادة الحاقدة لتشويه صورة الامام الخميني ـ رحمه الله ـ ومرجعيته وما صدر من كتب كثيرة ضد الثورة الإسلامية وقائدها الامام الراحل رحمه الله، ومنها الكتاب الحاقد (وجاء دور المجوس)، الذي يتحدث بهذا الأسلوب عن عودة الإسلام في ايران على يد الشعب الايراني والهدف منه واضح من خلال اسمه وكأن القضية ذات بُعد يرتبط بسيطرة الكفار على المسلمين، واتهام الثورة وقادتها بالمجوسية.
ونجد بعد ذلك الحرب العدوانية التي شنها نظام الطاغية صدام على الجمهورية الإسلامية الفتية تحت عنوان (الدفاع عن البوابة الشرقية للعالم العربي) لتصب في الاتجاه نفسه، حيث جاءت لترفع شعار القادسية، وكأن هذه الحرب العدوانية ضد الإسلام والثورة الإسلامية هي حرب بين الإسلام الذي يمثله صدام والمجوس التي تمثله ايران !! ليجعلها حرباً بين الفرس والعرب، إلى غير ذلك من الشعارات والعناوين التي طرحت لمواجهة هذه الحركة وهذه الصحوة التي كانت ولا زالت تقودها المرجعية الدينية.
ثم بعد وفاة الطبقة الاولى من المراجع في عصر الثورة، أمثال الامام الخميني وآية العظمى السيد الخوئي وآية الله العظمى السيد الكلبايكاني، أصبحت هذه القضية ـ مرة أخرى ـ من القضايا المطروحة في الأبحاث، وفي وسائل الاعلام، وفي المخططات الدولية والاقليمية والمحلية.
ووجدنا في الأيام القريبة الماضية ـ أيضاً ـ كيف اقدم النظام الحاقد الحاكم في بغداد على الأعمال الوحشية في تصفية مراجع الإسلام في النجف الأشرف ومحاصرة المراجع الآخرين من خلال جريمة قتل آية الله الشيخ مرتضى البروجردي وآية الله العظمى الميرزا علي الغروي، والعدوان على آية الله العظمى السيد السيستاني ثم محاصرته لبقية العلماء الذين لا زالوا يعيشون حالة الحصار في النجف الأشرف.
إلى جانب ذلك كله نجد في وسائل الاعلام العالمي بين الحين والآخر حديثاً عن المرجعية الدينية ودورها وكذلك شيوع أحاديث ـ مظللة ومغرضة ـ عن الصراع داخل هذه المرجعية بين النجف وقم، وأحياناً بين هذا المرجع وذاك، ثم أحاديث أخرى تجري في بعض الأوساط حول بعض مدعي المرجعية.. فهنا تدعى مرجعية وهناك تدعى مرجعية أخرى وهكذا.

ردم الفراغ الثقافي

ثم إذا أخذنا بنظر الاعتبار في هذا الحديث التحولات والتطورات الكبيرة التي حصلت في عالمنا اليوم وفي أوضاع جماعة أهل البيت عليهم السلام، نلاحظ التقارب القائم بين أطراف هذا العالم، بسبب ثورة الاتصالات من ناحية، والانتشار الواسع لأتباع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في أنحاء كثيرة من الأرض من ناحية أخرى، ففي السابق كانت (الجماعة الصالحة) تتمركز في مناطق معينة تضم الكثير من العلماء والمثقفين والمتفقهين الذين يمكنهم أن يوضحوا للناس معالم وأبعاد المرجعية الدينية وشروطها ومواصفاتها وكل ما يتعلق بها..، وأما في مثل هذه الحالة من الانتشار الواسع لأتباع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في العالم، شرقه وغربه ووجود وسائل الاعلام المضللة والمصالح الدولية والأغراض الفاسدة، فنحتاج إلى أن يكون هناك وضوح عام يتسم بالدقّة تجاه موضوع المرجعية وثقافة عامة في هذه الأوساط الكبيرة المنتشرة في ما يتعلق بموضوع المرجعية.
كما نلاحظ ـ أيضاً ـ وجود عمليات قمع واسعة جرت لأتباع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في بعض المناطق المهمة التي يقطنها اتباع أهل البيت عليهم السلام، بحيث أوجدت فراغاً في هذه المناطق، بما يتعلق بجانبي الوعي والثقافة الخاصين بمعرفة المرجعية الدينية ، وشروطها ودورها ومسؤولياتها وواجباتها، ويتمثل ذلك جلياً في العراق الجريح بعد أن قام النظام المجرم الحاكم طيلة المدة السابقة بعمليات مطاردة وقمع واسعة لرموز الحركة الإسلامية بصورة عامة ولمؤسسات ومواقع المرجعية بصورة خاصة مما أوجد فراغاً ثقافياً كبيراً في العراق في تفاصيل هذا الموضوع.
وإلى جانب هذا الفراغ الثقافي توجد الصحوة الإسلامية الواسعة التي يشهدها العراق والمشاعر الفياضة والاندفاع والشوق الشديد لدى شبابنا في العراق لمعرفة الإسلام رغم وجود الفراغ الثقافي الهائل ولذلك نحتاج إلى عمل وجهد كبير للتثقيف على هذا الموضوع الهام.
ونحاول في هذا البحث العام أن نلقي الضوء على مجموعة من الأبعاد والمعالم ذات العلاقة بهذا الموضوع الهام، لرسم التصور النظري العام والمسار العلمي له، دون الدخول في البحث الاستدلالي الفقهي الذي يحتاج إلى متابعة شخصية خاصة به وفرصة أخرى أوسع، وسوف أشير إلى بعض المصادر المختصة بهذا البحث كلما دعتني الحاجة لاكمال هذه الصورة.


موقع المرجعية

إن المرجعية ـ وفي أحد أبعادها ـ تعتبر من حيث الموقع والأهمية المؤسسة الثانية في تسلسل النظرية الإسلامية في تنظيم الجماعة والمجتمع الصالح، أي تأتي بعد مؤسسة الدولة والكيان السياسي الاسلامي والولاية بمعنى الحكومة الإسلامية، فالدولة تعتبر المؤسسة الاولى في النظرية الإسلامية تنظيماً من حيث الأهمية، وعلى أساس هذا الفهم نجد ـ في تراثنا الاسلامي الذي ورثناه عن ائمتنا الأطهار ـ عليهم السلام ـ وعن علمائنا الأبرار ـ هذه القداسة لهذا الموقع الاسلامي، فهي تتولى بصورة إجمالية موقع الدولة ومهماتها في حال غياب الدولة الإسلامية، أو الولاية، أو في حالة عدم الاعتراف بالدولة في بعض المجالات، أو في ظلها، ولكن لملء الفراغات الخاصة بالجماعة.
ويمكن أن نتعرف على هذا الموقع التنظيمي الخاص من خلال ما يشير إليه الحديث الشريف المعروف (بالتوقيع) الذي ورد عن الامام الحجة في جواب السؤال عن الموقف في صورة غياب الولاية حيث ورد: ((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله على الناس))(1). ويتضح ذلك بصورة خاصة في البحث الفقهي المعروف ببحث ولاية الفقيه، حيث يجمع علماء الامامية ويوافقهم على ذلك الكثير من غيرهم على أن (الفقيه) يتبوأ الموقع الأول في الهيكل العام لنظام الجماعة عند غياب الامام المعصوم.
ولعل انتزاع عنوان (المرجعية) لهذا الموقع استفيد من هذا الحديث الشريف الذي استخدم مادة (ارجعوا) ثم إن المرجعية وإن كان لها هذا الموقع التنظيمي، ولكنها من ناحية أخرى لها بعد عقائدي وهو أن المرجعية تمثل نيابةً وامتداداً للامامة التي هي امتداد للنبوة، وتعبير عن مسؤوليتها فيها، ولذا جاءت هذه المقولة المعروفة وهي أن (ولاية الفقيه امتداد لحركة الأنبياء)(2).

مهمات المرجعية

ومن الممكن تلخيص مهمات المرجعية الدينية الصالحة بالمهمات الرسالية التي يتحملها الأنبياء والرسل والتي أشار إليها القرآن الكريم وهي بصورة اجمالية ثلاث:
الأولى: استيعاب وابلاغ الرسالات الالهية وتلاوة آيات الله والمحافظة عليها وهداية الناس إلى الحق والهدى والصلاح والعقيدة السليمة واخراجهم من الظلمات إلى النور.
الثانية: التزكية والتطهير والتربية لهؤلاء الناس ـ أفراداً وجماعات ـ في نفوسهم وسلوكهم وحياتهم الاجتماعية من خلال الأشراف والرقابة والشهادة على ممارسة الانسان لدوره في الخلافة ومواكبة مسيرته باعطائه التوجيه بالنشر والانذار ووعظ الناس في سولكهم وعملهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، واقامة الصلاة وايتاء الزكاة والحكم بين الناس بالقسط والعدل، وتحقيق العزة والكرامة لهم، وكذلك التدخل لمقاومة الانحراف، واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل ذلك.
الثالثة: تعليم الناس الكتاب والحكمة وشرائع الإسلام وأحكامه والأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة، والسنن الالهية التي تحكم حركة المجتمع الانساني. ويمكن فهم هذه المهمات من قوله تعالى: (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة...)(3). ومن قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور..)(4).
وهذه المهمات الأساسية وإن كانت قد تتغير بعض مصاديقها وصورها من زمان ومكان إلى زمان ومكان آخر ولكنها مهمات ثابتة.
وعلى مستوى المصاديق والمفردات في هذا العصر قد نجد أمامنا مجموعة من المصاديق والمهمات سوف نشير إلى أهمها في استعراض قضايا الأمة ومصالحها في هذا العصر في فصل: (شروط المرجعية) كما سوف نشير ـ إن شاء الله ـ في نهاية هذا البحث عند الحديث عن واجبات المرجعية إلى مجموعة أخرى من المصاديق والمفردات(5).

إنجازات المرجعية

وفي بُعد آخر نجد المرجعية الدينية من الناحية الواقعية العملية أفضل مؤسسة تمكنت أن تقدم خدمات كبرى إلى الإسلام والمسلمين بصورة عامة وإلى جماعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بصورة خاصة، فلقد تمكنت المرجعية على مر الدهور:
1 ـ أن تحافظ على الإسلام الأصيل النقي ومنابعه الأصيلة والشريعة الإسلامية .
2 ـ وفي الوقت نفسه استمرت في إبقائها باب الاجتهاد مفتوحاً لتواصل هذه الحركة العظيمة مسيرتها وتحقق هذا الانجاز الكبير من خلال قدرتها على معالجة المستجدات في الحياة الانسانية في ضوء الحكم الشرعي.
3 ـ وكذلك تمكنت أن تحافظ هذه المرجعية على هذه الجماعة الصالحة التي كانت ولا زالت تتحمل المسؤوليات العظمى في التاريخ الاسلامي.
بل قامت المرجعية الدينية بتنمية وتطوير هذه الجماعة والوصول بها إلى هذا المستوى الراقي في الكم والكيف حتى أصبحت الجماعة الأولى في العالم الاسلامي والمتميزة بين الجماعات التي تتحمل المسؤوليات العظام في هذا العصر.
4 ـ وإلى جانب ذلك كله تمكنت هذه المرجعية ومؤسساتها من المحافظة على معالم الثقافة الإسلامية الأصيلة، ليس على المستوى وفهم هذه الثقافة فحسب، بل على المستوى التطبيقي والعملي، وبقاء هذه الثقافة حية وفاعلة في أوساط الأمة، ولا سيما أتباع أهل البيت عليهم السلام، هذه الثقافة المعروفة بثقافة أهل البيت أو (الثقافة الإسلامية الشيعية)، وكانت المحافظة على هذه الثقافة من أهم الانجازات العظيمة للمرجعية، حيث يتبين ذلك من ملاحظاتنا لمعالم هذه الثقافة:

الثقافة الإسلامية الشيعية

وهنا يطرح هذا السؤال وهو ماهي معالم الثقافة الإسلامية الشيعية؟
منذ البداية وفي مقام الجواب عن هذا السؤال يحسن بنا أن نؤكد:
أولاً: أن هذه الثقافة وإن كانت ثقافة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ التي قدموها للمسلمين بصورة عامة ولشيعتهم بصورة خاصة إلاّ أنها ليست ثقافة (طائفية) تتعصب لجماعة من الناس دون أخرى، وإنما هي ثقافة اسلامية عامة كما أرادها أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وهي مستمدة من القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة.
وثانياً: أن الهدف العام لهذه الثقافة هو ارساء بناء المجتمع الاسلامي على قواعد قوية محكمة من الأسس الروحية والمعنوية التي تحافظ على قوة المجتمع وحيويته والعناصر الداخلية المحركة له ومن ذلك وحدة صفوف المسلمين وكلمتهم ومواقفهم تجاه أعدائهم وقضاياهم المصيرية على أساس التعايش والتعاون على البر والتقوى بينهم. أما المعالم العامة لهذه الثقافة هي:
1 ـ حب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ: فهو الاطار العام الذي يجمع المسلمين على الولاء لله والرسالة والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من خلال هذا الحب، فلم يطرح أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لجمع كلمة الناس والالتزام بفقههم ـ بالرغم من أنه يمثل المعرفة الإسلامية الأصيلة، وقد ارشد إليهم النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بذلك في نصوص عديدة، منها حديث الثقلين المتواتر(6) ـ وإنما طرح موضوع حبهم وولائهم كإطار يجمع المسلمين عموماً وشيعتهم بصورة خاصة، وذلك انطلاقاً من القرآن الكريم الذي أكد هذا الاطار بقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى)(7).
كما وردت نصوص وأحاديث كثيرة صحيحة ومتواترة رواها علماء المسلمين في مختلف الأدوار تؤكد هذا الاطار.
ولذلك نلاحظ أن هذا الاطار مما يشترك فيه جميع المسلمين فعلا وواقعاً وليس مجرد اطار نظري مشترك للمسلمين، بل هو واقع روحي والتزام عملي يشترك فيه المسلمون جميعاً على اختلاف مذاهبهم وفرقهم بصورة عامة.
وهذا الحب ليس مجرد عاطفة انسانية وشعورية، بل الاعتقاد بالموقع الخاص لهم في الرسالة الإسلامية المحفوف بالود والولاء والاحترام والتقديس والاتباع لهم في السلوك العام والرجوع إليهم في معرفة معالم الدين والشريعة.
وأهل البيت هم النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ والزهراء البتول وعلي ـ عليه السلام ـ والسبطان المنتجبان الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ والائمة التسعة المعصومون من ولد الامام الحسين عليهم السلام.
2 ـ الايمان بالحرية الفكرية والبحث العلمي وفتح باب الاجتهاد بالنظر في النصوص الدينية واستنباط الحكم الشرعي للحوادث المستجدة وتجديد النظر في القضايا السابقة، وذلك طبقاً للضوابط والأصول العامة الشرعية التي حددها الشارع للوصول إلى الحقيقة أو التجارب الانسانية في الوصول إليها.
وكذلك الايمان بالحرية السياسية في اتخاذ المواقف تجاه الأحداث ضمن المصالح العليا للاسلام والمحافظة على أمن النظام(8).
وحق الأمة في انتخاب وتشخيص الحاكم الشرعي الذي لابد أن يكون متصفاً بمواصفات خاصة، حيث تتحمل الأمة تشخيصه وتعيينه. وكذلك حق الأمة في اختيار النهج الصالح لادارة الحكم ومعالجة القضايا الاجتماعية والتعبير عن الرأي والمواقف.
وحق الأمة في الوعي السياسي ومعرفة الأحداث ومتابعتها والمشاركة فيها والرقابة عليها وعلى ادارة الحكم. وهذا الخط الثقافي يلتزم به أتباع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في مختلف أدوار تاريخهم وشؤون حياتهم.
3 ـ الايمان بالعزة والكرامة الانسانية والحرية الشخصية في اطار الحكم الشرعي، وتعتبر الكرامة الانسانية من المحاور الرئيسية في ثقافة أهل البيت عليهم السلام، وهي مضمون اسلامي مأخوذ من القرآن الكريم والرسالة الإسلامية، فقد قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(9)، وهي صفة انسانية لا يمكن أن تسلخ من الانسان.
ولذا كان أحد وجوه الاهتمام البالغ بقضية الامام الحسين ـ عليه السلام ـ هو وجود هذا المدلول الأخلاقي الخاص فيها، مدلول العزة والكرامة والاباء الذي تحدث عنه الامام الحسين وأطلق فيه الشعار المعروف (هيهات منا الذلة).
وهذا المدلول الاخلاقي نراه يتحرك فعلياً وواقعياً في مختلف الفعاليات الثقافية لجماعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في الزيارة والخطابة والشعر والمجالس ومواكب العزاء والمواقف السياسية والمشاعر والعواطف الانسانية.
4 ـ الايمان والشعور بالمسؤولية تجاه قضايا المجتمع الانساني من اقامة الحق والعدل بين الناس ومقاومة الظلم والطغيان والجور والاستبداد وتحمل الآلام والمحن والمصائب في سبيل ذلك وتقديم التضحيات الكبيرة لتحقيق هذا الهدف. وقد أصبحت قضية الامام الحسين ـ عليه السلام ـ الرمز الكبير والواضح لهذه الثقافة الاجتماعية في هذا المجال وكانت ولا زالت تمد جمهور أتباع أهل البيت والمسلمين عموماً بهذا الزخم الروحي والمعنوي.
5 ـ الايمان بواجب الدفاع عن المظلومين والمستضعفين ونصرتهم ورفع الظلم عنهم انطلاقاً من القرآن الكريم الذي يدعو المسلمين إلى ذلك (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا)(10).
وقد مارس أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم هذا الدور والتزموا بهذه الثقافة في مختلف الأزمنة، وكشاهد على هذه الحقيقة الموقف الرائد المعروف للمرجعية الدينية في النجف الأشرف تجاه الشعب الكردي في العراق عندما تعرض ـ عقد الثمانينات الهجرية ـ للاضطهاد والظلم، حيث وقفت المرجعية الدينية أيام الامام الحكيم ـ رحمه الله ـ تدافع عنهم وتحرم سفك دمائهم وتطالب بمنحهم حقوقهم المشروعة في وقت وقف فيه النظام وعلماء السلطة إلى جانب الظلم والعدوان.
كما أن الروح العامة التي طبعت المواقف السياسية للجمهورية الإسلامية في قضايا الشعب الفلسطيني والبوسنة والهرسك والعراق وكشمير وغيرها تنطلق من هذه الرؤية الثقافية.
6 ـ الرفض لجميع ألوان الهيمنة الأجنبية والتسلط الخارجي أو العنصري أو التعصب الطائفي أو الغزو الثقافي والاقتصادي والتبعية السياسية، والحرص على استقلال ارادة القرار ومقاومة الاستعمار بكل ألوانه.
وقد ظهر ذلك واضحاً في السلوك العام لاتباع أهل البيت عليهم السلام، ولا سيما الحوزات العلمية في استقلالها واعتمادها على الله تعالى والذات، وامكانات المؤمنين، وفي المحافظة على أصالتها الفكرية والثقافية وعدم السماح بأيّ لون من ألوان الاندساس والتغلغل الثقافي الأجنبي، والالتزام بالمناهج العلمية الأصيلة والمضمون الثقافي النقي، مما جعلها تمتاز ـ بصورة واضحة ـ عن جميع المؤسسات المماثلة الأخرى.
وكذلك في تصديها لعمليات الغزو الأجنبي لبلاد المسلمين، والتصدي لحركات التحرر والاستقلال حتى أصبح شعار لا شرقية ولا غربية خطاً ثقافياً سياسياً يتحكم في المسار الثقافي السياسي لهم.
7 ـ الايمان بالمساواة بين الأقوام والشعوب والطبقات الاجتماعية في القيمة الانسانية وفي الحقوق العامة وفي الانفتاح العلمي والثقافي عليها وتكافؤ الفرص الممنوحة، ولا سيما الأقليات الدينية والعرقية غير العربية.
ولعل من أفضل الشواهد على هذه الحقيقة، الأثر الذي تركته هذه الثقافة في أوساط هذه الشعوب من علاقتهم الخاصة بأهل البيت ـ عليهم السلام ـوارتباطهم بمذهبهم والشعور بعدم وجود هذه الامتيازات الخاصة للعرب من الناحية العرقية والقومية وعمق الشعور بفكرة الاستبدال لهم عند التخلف عن القيام بأداء الرسالة، وضعف التعصب القومي لدى أوساط أتباع أهل البيت عليهم السلام.
كما أن من الشواهد على ذلك طبيعة تركيبة الحوزات العلمية المتعددة الجنسيات وطبيعة العلاقات التي تربط بين أبناء الجماعة في قضايا التقليد والدرس وغيرها، حيث لا توجد مشاعر التعصب والتمييز، فهم يقلدون (المراجع) مهما اختلفت انتماءاتهم الجغرافية على أساس الموازين العلمية والروحية، كما يحضرون دروس العلماء والفقهاء بدون تمييز ويستفيدون من كتبهم وعلومهم ويرتبطون اجتماعياً بالزواج وغيره كذلك.
8 ـ الاهتمام العالي بالعلم وتدوينه وتطويره وتقديسه وايجاد المؤسسات العلمية كالمدارس والمكتبات العامة والخاصة، والمحافظة على التراث وتنوع الثقافات والانفتاح على الحضارات والحوار الحضاري والتأليف في مختلف العلوم والنشر والبحث العلمي.
فقد كان التدوين للسنّة الشريفة والتأليف في العلوم الإسلامية وايجاد الحوزات والمدارس العلمية مما سبق إليه أتباع أهل البيت عليهم السلام، وكان لهم دور التأسيس فيه.
ثم نجد أن الكتابة والتأليف في العلوم المتنوعة والانفتاح فيها على الآخرين من داخل الاطار الاسلامي أو خارجه مما أمتاز به أتباع أهل البيت عليهم السلام، ولذلك لا تكاد تجد مكتبة خاصة أو عامة لديهم لا تضم مختلف الكتب ذات الانتماءات المتعددة مذهبياً وثقافياً، كما لا تكاد تجد مثقفاً واحداً منهم لا يملك مكتبة خاصة بل نجد بعض هذه المكتبات الخاصة تفوق في حجمها وتنوعها وأهميتها الكثير من المكتبات العامة.
كما أن نسبة التأليف في العلوم الإسلامية ـ بالرغم من قلة العدد وظروف المحنة والمحاصرة التي مرت بها جماعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وقلة الامكانات نسبة عالية تقارب الربع أو الخمس من مجموع المؤلفات الإسلامية العامة.
9 ـ تقديم المصلحة الإسلامية العليا للاسلام والأمة الإسلامية وجماعة المسلمين عموماً على المصالح الطائفية الخاصة وجماعتهم المخصوصة.
وهناك شواهد كثيرة في هذا المجال عامة وخاصة، منها الموقف الاسلامي في الدفاع عن الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية العثمانية في النصف الأول من القرن الماضي الهجري ـ بالرغم من أن هذه الدولة كانت حنفية المذهب وكانت تضطهد أتباع أهل البيت عليهم السلام، بصورة عامة وفي صراع مع الدولة الشيعية في ايران ـ حيث أفتى جميع علماء المسلمين الشيعة في النجف الأشرف بوجوب الجهاد دفاعاً عن هذه الدولة في مقابل الغزو الانجليزي وشاركوا مع اتباعهم فعلياً في القتال.
ومنها موقفهم تجاه فلسطين، وبذل التضحيات الغالية واتخاذ المواقف الصلبة والقوية في الدفاع عنها، وما جرى ويجري في لبنان الآن أفضل شاهد على ذلك.
ومنها الموقف العظيم للامام الحكيم ـ رحمه الله ـ في الدفاع عن الإسلام وجماعة المؤمنين عندما تعرض العراق إلى خطر التيار الماركسي وتعرض العلماء وأكثرهم من أهل السنّة إلى الاضطهاد على يد هذا التيّار وكان موقف الامام الحكيم بتفواه (الانتماء إلى الحزب الشيوعي كفر والحاد أو ترويج للكفر والالحاد) أعظم الأثر في درء هذا الخطر الماحق.
وكل هذه المواقف وغيرها تستلهم هذه الثقافة من موقف الامام علي ـ عليه السلام ـ في صدر الإسلام بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي يعبر فيه عن هذا المبدأ السياسي الثقافي، حيث كان يؤمن أن الخلافة هي حقه الطبيعي والشرعي، ولكن عندما وجد أن المطالبة بها والصراع من أجلها يؤدي إلى تعرض الإسلام والأمة الإسلامية إلى خطر الضعف أو الانهيار، سلم الأمر لغيره، دون مقاومة، واكتفى بتسجيل موقفه برفض البيعة في البداية، حرصاً على تثبيت الحق، وهو يعبر عن ذلك بقوله: ((... فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً...))(1).
10 ـ الوحدة من خلال التعايش والتقارب بين المسلمين في العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى في الشعائر الدينية، والاتحاد مع جماعتهم في المواقف السياسية العامة تجاه أعدائهم وفي التعاون على البر والتقوى وبناء المجتمع الاسلامي الصالح، وفي تسديد الحكام والسلاطين بالرأي والنصيحة والمشورة(2).
إن هذه الخطوط الثقافية العامة كانت توجه وتشخص حركة المرجعية الصالحة في مختلف الأدوار من ناحية، كما كان للمرجعية الصالحة الدور الأساس في تثبيتها وترسيخها في أوساط أتباع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وغيرهم من ناحية أخرى بحيث كانت تمثل أحد الانجازات الكبرى لهذه المرجعية.
مضافاً إلى ذلك كله الانجاز الذي قامت به المرجعية الدينية الصالحة في المحافظة على مجموع ثقافة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بتفاصيلها العقائدية والأخلاقية والشرعية والتاريخية والتي تمثل انجازاً عظيماً آخر يمكن أن نضيفه إلى الانجازات الكبرى للمرجعية(3).
_____________________________
(1) وسائل الشيعة 18: 101، حديث 9.
(2) يمكن لتوضيح هذا البعد مراجعة البحث الذي كتبه الشهيد الصدر في كراس خلافة الانسان وشهادة الأنبياء: الإسلام يقود الحياة 144 ـ 146.
(3) الجمعة: 2.
(4) المائدة: 44.
(5) لقد استعرضنا بعض القضايا والمفردات والخطوط المهمة في كتابنا (الامام الحكيم) الفصل الرابع الحوزة العلمية وحركة الاصلاح، فليراجع.
 (6) روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ انه قال: (إني تارك أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا : كتاب الله وأهل بيتي عترتي أيها الناس اسمعوا وقد بلّغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان: كتاب الله عزوجل ذكره وأهل بيتي فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم)، الكافي 2: 293 ـ 294، حديث 3، البحار 22: 465، حديث 1، وقد تواترت الأخبار في هذا المعنى، صحيح مسلم4: 1873ـ1874 حديث36و37، صحيح  الترمذي 5: 662 حديث 3786، مستدرك الصحيحين 3: 148، وغيرها من كتب علماء الفريقين.
(7) الشورى: 23.
(8) أشرنا إلى هذا الموضوع في كتابنا الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين: 177 ـ 190.
(9) الاسراء: 70.
(10) النساء: 75.
(11) نهج البلاغة: من كتاب له  ـ عليه السلام ـ: 62.
(12) الشواهد العلمية على هذه الحقيقة كثيرة لا يسعها هذا المقال، وقد تناولناها بالبحث في كتابنا الخاص بموضوع الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين.
(13) لمزيد من التفاصيل راجع كتابنا (دور أهل البيت ـ عليه السلام ـ في بناء الجماعة الصالحة) حيث استعرضنا فيه الكثير من معالم هذه الثقافة، حيث حفظت لنا المرجعية الدينية الصالحة هذا التراث.